نَعَم، فَشِلَت حَرب الإِبادَة في تَحقيقِ أَهدافِها الإستراتيجيّة

تُطرَح في الآونَة الأخيرة مَقولة مَفادها أنّ إسرائيل قد هُزِمَت استراتيجيًّا، وأنّ تَدميرَها قطاعَ غزّة لا يعني بالضرورة هَزيمَةَ المُقاوَمة الفلسطينية. تَستَند هذه المَقولة، التي قد تَبدو مُثيرة للجَدَل، إلى مُعطَيات عسكرية ودبلوماسية واجتماعية-سياسية، وَرَدَت في وَثائق وتحليلات إسرائيلية داخليّة. يَهدِفُ هذا المَقال إلى مناقَشة هذه الفرضيّة من خلال استعراض البُعد العسكري، والدبلوماسي-الدولي، والدّاخلي الإسرائيلي.
أولًا، البُعد العسكري، حيث أشارَت وثيقة داخلية صادِرة عن ذِراع اليابِسة في الجيش الإسرائيلي إلى فَشَل عمليّة “عَربات جِدعون 1”، الّتي هدَفَت إلى القضاء على المقاومة الفلسطينية في غزة. لا تَكتفي الوثيقة بوَصف العملية كتعثّر تكتيكي، بل تعتبرها إخفاقًا شاملًا على المستويات العسكرية والسياسية والاستراتيجية. وقد أبرزت الوثيقة إخفاقَين مركزيّين الأول العَجز عن سَحق حماس والقَضاء على حُكمها في قطاع غزة، والثاني الفَشَل في استعادَة الأسرى المحتجزين، سواء عَبر عمليّات عَسكرية أَو صَفَقات تَبادُل. و بناءً على ذلك، لم يتحقّق الهَدَفان الأساسيّان للحرب، الأمر الذي يُضعِف مِن جَدوى العمليّة بِرُمّتها.
كما تَكشف الوثيقة أن الأَزمة تتجاوز فَشَل عملية واحدة إلى أزمة بنيويّة في قُدرة إسرائيل على فرض الحسم العسكري. فبَعد أشهر من القتال، لم تُكسَر حَرَكة حماس، بل عززت من تماسُكها، في حين ظَهَر الجيش الإسرائيلي مثقلًا بالخسائر ومحدوديّة القُدرَة على المناوَرَة. يَعود ذلك إلى امتلاك المقاوَمة عواملَ صمود أساسية، مثل: موارد ثابتة، مجالات آمنة للحركة بالإضافة الى اعتماد تكتيكات حرب العصابات، التي مَنَحَتها ميزةً في مواجهة جيش تقليدي. فيما يدفع هذا السياق للتساؤل: هل انتهى فعلًا زمن الحَسم العسكري الإسرائيلي؟ وهل رسّخت حركة المقاومة الإسلامية معادلة جَديدة تجعل الصراع مفتوحًا على احتمالات طويلة الأَمَد؟
ثانيًا، البُعد الدبلوماسي والدولي. على المستوى الدوليّ، تكبدت إسرائيل خَسائر فادِحة في الرأي العام، انعَكَسَت في شَكل ضُغوط سياسيّة على الحُكومات الغربيّة. وأصبح يُنظر إليها بشكل مُتزايد كدولة مَنبوذة دبلوماسيًّا. حذّر رئيس المعارضة الإسرائيلي، يائير لابيد، قائلًا: “إنّ سياسات نتنياهو تُنهي الصهيونيّة كَمَشروع تاريخي". تَرافَق ذلك مع إعلان دولٍ أوروبيّة وأخرى مركزيّة في العالم نيّتها الاعتراف بحلّ الدولتين، منها: فرنسا، بريطانيا، إسبانيا، إيرلندا، سلوفينيا، النرويج، بولندا، ألمانيا، بلجيكا، مالطا، سان مارينو، أستراليا، كندا ونيوزيلندا. في السياق ذاته، ذَهَب أفيغدور ليبرمان، زَعيم حزب “إسرائيل بيتنا”، إلى حدّ القول إن “نتنياهو سيكون مؤسس الدولة الفلسطينية.”
ثالثًا، البُعد الثقافي والإعلامي، فيتَجلّى تحوّل المِزاج العالمي كذلك في الحَقل الثقافي والإعلامي. فقد حَظِي فيلم “صوت هند رجب” بتصفيق استمر 24 دقيقة في مهرجان فينيسيا السينمائي، ما يعكس تعاطفًا واسعًا مع الرواية الفلسطينية. لا يُقرأ هذا التّفاعل كنجاح فَنّي فقط، بَل كَدَلالة على تحوّل في الرأي العام العالمي، الذي باتَ يَنْظر إلى إسرائيل كنظام فصلٍ عنصري واستعماري، يُمارِس حرب إبادة ضدّ الشعب الفلسطيني.
رابعًا، البُعد الداخلي الإسرائيلي. على الصّعيد الداخلي، تُواجِه إسرائيل انقسامًا اجتماعيًّا وسياسيًّا هو الأخطر منذ تأسيسها. فقد وَصَف رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو الاحتجاجات ضدّه بأنّها “ميليشيات فاشيّة”، في مؤشر على حدّة الانقسام العمودي والأفقي في المجتمع الإسرائيلي. تصاعَدَت الأزمة مع فَشل كبار المسؤولين الأمنيين والسياسيين – رئيس الأركان إيال زامير، ورئيس الموساد دافيد برنياع، ووزير الخارجية جدعون ساعر – في إقناع نتنياهو بقَبول صفقة تبادلٍ جزئية قَبِلَتها المقاومة في 18 آب/ أغسطس. برّر نتنياهو رَفضَه بأن الرئيس الأميركي دونالد ترامب يَضغط لعقد “صفقة شاملة” تتطلّب إنهاء المقاومة كليًّا، وهو ما يستدعي استمرار الحرب لتنفيذ خطة ترامب، بحسب ما كَشَفَت صحيفة "واشنطن بوست".
خُلاصَة القَول
تُظهر المعطَيات المتوفّرة أنّ إسرائيل، رَغم استخدامها أقصى أشكال الإبادَة الجَماعيّة والتدمير ضدّ قطاع غزة، لم تُحقّق أَهدَافَها الاستراتيجية. بل على العَكس، وَجَدت نَفسَها أَمام أزمة مركّبة: عسكرية، ودبلوماسية، وداخلية. في المقابل، استطاعَ المقاتلون في حماس تَرسيخ معادَلة صُمود ومناوَرَة، فَرَضَت واقعًا جديدًا في مسار الصراع.إنّ الإصرار الأميركي والإسرائيلي على استمرار الحَرب يُعتَبَر محاولة لاستعادة الرّدع المفقود، غيرَ أنّ المؤشِّرات حتى الآن تَميل إلى ترجيح كفّة الهزيمة الاستراتيجية لإسرائيل على المَدى الطويل. وصَدَق أبيغدور ليبرمان في قوله: "سَيُكتَب في التاريخ أن نتنياهو بنفسه أقامَ الدولة الفلسطينية"، وبذلك حقَّق بشكل مَعكوس رؤية يحيى السنوار وهدفه وهو في قبره.

د. عامر الهزيل
كاتب وناشط سياسي فلسطيني من النقب. يشغل اليوم منصب نائب وقائم بأعمال رئيس بلدية رهط.