"إلى أَن يَأتي ذلك الوَقت، عَلينا أَن نَعمَل": المَسرَح كَفِعل وُجوديّ في زَمَن الإِبادَة

بين مسرح تشيخوف وَعَبَث بيكيت

في قلب العدم الذي يلفّ الوجود الفلسطيني، حيث يذوب الفارق بين الكابوس واليقظة، يصبح السؤال عن جدوى المسرح سؤالًا وجوديًّا بامتياز. كيف يُصنع الفنّ تحت القَصف؟ كيف تُروى الحكاية وسَط الركام؟ ففي زمن يُختزل فيه الإنسان إلى رقمٍ أو كيسٍ من اللحم المتقطّع في إحصاءات الموت، يبدو المسرح ضربًا من الترَف، أو حتى استفزازًا للواقع والوعي، لكنّه في الحقيقة، تَحوّل إلى فعل مقاومة وجوديّ حرّ؛ إلى صوت عالٍ ضدّ الصمت الكوني على الإبادة، إلى إصرارٍ على أن تظلّ الحياة أكثر من مجرّد بقاء، إنما استمرار إنسانيّ حرّ ومُبِدع.  

المَسرح كمرآةٍ للألم وكَسْرٍ للصّمت 

لم يكن المسرح يومًا مجرّد خشبةٍ وأضواء، بل كان دائمًا شاهدًا على الزمن، حافظًا للذاكرة، ومُعبّرًا عن روح الشعوب وقضاياها في العالم. ففي فلسطين، حيث تُختطف الجغرافيا وتُمحى الهوية، يُصبح المسرح مرآةً تعكس ما تحاول الآلة العسكريّة طمسه هنا، يتحوّل الأَلَم إلى حوار، واليأس إلى حركة، والوجع إلى قصيدةٍ مرئيّة يُعاد فيها تشكيل الواقع وإنتاجه لترميم الرّوح الجمعية التي نبحث فيها عن الذات المفقودة بين أنقاض المنازل والقرارات الدولية، المسرح هنا ليس ترفيهًا بل هو فعل وعيٍ ومحاولة لفهم العالم أو على الأقلّ رفض فهمه كما يُفرض علينا

تشيخوف وبيكيت: بين الانتِظار والعَبَث (فلسطين)

يَستحضِر الواقع الفلسطيني اليوم روحَ تشيخوف، حيث الشخصياتُ تئنّ تحت ثقَل الواقع، تحلم بالتحرّر لكنّها عاجزة عن الفعل. كما في "الشقيقات الثلاث"، التي تنتظر العودة التي لن تصلها أبدًا. وكانت الجملة الحوارية الشهيرة في "الشقيقات الثلاث": "إلى أَن يَأتي ذلك الوَقت علينا أن نَعْمَل".

 يعيش الفلسطيني في انتظارٍ لا ينتهي: عودةٌ، تحريرٌ، عدالةٌ. زمنٌ دائري لا خروج منه. الحُلم يَتَراجع، والواقع يزداد قسوة، مع ذلك لا يقف الواقع الفلسطيني عند حدود المأساة التشيخوفية، بل يتعدّاها إلى عَبَثيّة بيكيت. ففي مسرحيّة  "في انتظار غودو"، ينتظر شخصان مَنْ لا يأتي، ويتحدّثان عن لا شيء، لأنّ الزمن توقف والمَعنى تلاشى. هكذا يعيش الفلسطينيّ تحت الاحتلال: ينتظر حقوقه منذ عقود، يتفاوَض على أوهام متهالكة، يُقتل وهو يطلب ما هو مكفولٌ للبَشَر بحدّه الأدنى. العبث هنا ليس فلسفةً، بل واقعٌ يومي. ما يعيشه الفلسطيني هو مزيجٌ من اليَأس التشيخوفي والعَبَث البيكيتي، لكنّه يَرفض أن يكون نُسخةً منهما. إنّه يخلق معنى جديدًا وسردية خاصة، لأنّ البقاء هنا فِعل مقاوَمة. 

المَسرَح كأَرشيف حيّ: أَن نَروي كي نَبقى 

في زَمَن الإبادة، حيث تُحرق المكتبات وتُقصف المدارس، يُصبح المسرح أرشيفًا حيًّا. كلّ عرضٍ مسرحيّ هو وثيقةٌ ضد النسيان، كل حوارٍ هو شهادةٌ على ما حَدَث. عندما تُقتل الرواية الرسميّة، يبقى الفن حاملًا للذاكرة. ليس المسرح الفلسطيني مجرّد عروض، بل هو مقاومةٌ ثقافية، إصرارٌ على أن تظلّ القضية حيّةً في الضمير العالمي -إن وُجد.  

والأهم، أن المسرح يَمنحُ الشباب الفلسطيني صوتًا حرًّا من تحت الرّكام، تُصبح الخشبة متنفّسًا، طريقةً لقول: "نحن هنا". هذا ليس هروبًا من الواقع، بل مواجَهة له، لتحويل الألم إلى فِعل وجوديّ إبداعي مستمر. 

إِنْ لَم تَمُت فاستمِر... الاستمرار كَخيارٍ وَحيد 

عندما كتب تشيخوف: "إلى أن يأتي ذلك الوقت، علينا أن نعمل"، لم يكن يتحدّث عن فلسطين، لكنّ كلماته وَجَدت فيها موطنًا جديدًا. العمل هنا يعني البقاء، والإبداع يعني رفض الاندثار. المسرح الفلسطيني، برغم كلّ شيء، مستمر. لأن التوقّف يعني السماح للاحتلال بأن يَنتصر، ليس فقط على الأرض، بل على الروح أيضًا.

حول مبادرة "مدرسة طقس للمسرح"

في هذا السياق الفلسطيني المعقّد، حيث يتهدّد العدم الوجودَ ذاته، تَبرُز مبادَرات مثل مدرسة طقس للمسرح كضرورة إنسانيّة وفلسفيّة عميقة تتجاوز مجرّد تقديم الفنّ. إنها ليست ترفًا في زمن القهر، بل هي ملاذٌ آمن ورئة تتنفّس منها أرواح الأطفال والشباب، مساحة حيويّة للتعلّم المسرحي التربوي الشامل، تُعِدّهم ليس فقط لمواجهة تحديات الواقع، بل لصناعة غدٍ مختلِف.

تُدرك "طقس" أن المسرح والدراما الإبداعية ليسا مجرّد أنشطة، بل هما عنصران جوهريان في التنمية الشاملة للأطفال والشباب الفلسطينيين، خاصة في ظلّ الظروف القاسية التي يواجهونها. تتخطى رؤيتها حدود تدريس الفنّ لتلامس جوهر بناء الإنسان؛ فهي تسعى إلى غرس بذور النّجاح، والإبداع، والثقة، والتمكين في نفوس أطفالنا، ليصبحوا قادرين على تجاوز التحديات المجتمعية المعقدة. من خلال دمج الدراما والفنون البصريّة، والكتابة الإبداعية، والموسيقى، والرقص، والحركة، تُصقَل شخصية الطفل وتُنمى مهاراته الاجتماعية، والعاطفية، والمعرفية، والجسدية بشكل متكامل. ليس هذا النهج مجرّد مَنهج تعليمي، بل هو عمليّة شفاء جماعيّة وبناء نفسيّ عميق، يخلق مساحةً آمنة حيث يُمْكِن للأطفال التّعبير عن ذواتهم بحرية، ومعالجة الصدمات الناتجة عن الحرب والنزاع، وتحويل الألم إلى طاقة إبداعيّة خلاقة.

في بيئة تفتقر فيها المدارس لبرامج الدراما والمسرح الإبداعي، وتَغيب المَنافذ الآمنة للتّعبير عن المشاعر المكبوتة، تُقدّم "طقس" قيمة مضافة استثنائية. إنها تؤمن بأنّ الطفل بطلُ قصَّته، وتمنحه الأدوات ليخطّ فصولها بنفسه، بعيدًا عن سطوة الحرب وخرابها. تعمل "طقس" رافعة لبناء جيل يمتلك الفكر والإبداع، جيل يحمل بين جوانحه أحلامًا كبيرة، ويسعى لتحقيقها بعيدًا عن أصوات المَدافع ودُخان الحرب، جيل قادر على صناعة التّغيير الإيجابي والمستدام في مجتمع أكثر عدلًا وتنوعًّا وشمولًا. ليست مدرسة "طقس" مجرّد مؤسسة، بل هي فعل إيمان بالمستقبل، وتَجسيد حيّ للإرادة الفلسطينية في البقاء والنهوض والإبداع.

في النهاية، ليس المسرح في زمن الحرب رفاهيّة، بل ضرورة. هو محاولةٌ لصنع الجَمال وَسَط القبح، ولحظةٌ من الحريّة وسط القيد. هو تذكيرٌ بأن الفلسطيني، رغم كلّ محاولات القتل والتّشريد، لم يصبح بعدُ رقمًا. هو يحب، ويحلم، ويغضب، ويضحك، ويروي قصته. وهو، فوق كلّ ذلك، يخلق فنًّا يجعل العالم يسمع صوته. 

فلسطين تُكتب على الخشبة قبل أن تُكتب في سِجِلات الضّحايا. 

عيد عزيز

فنان مسرحي فلسطيني، استشاري أكاديمي، ومخرج.  

رأيك يهمنا