الشَّباب العَرَب في ظِلّ الحُروب: جيلٌ يُريد أَن يُرى

في ظلّ الأَزَمات الأمنيّة والاقتصادية، يواجِه آلاف الشباب العرب - مُعظَمهم من خريجي الجامعات - التّهميش في الحَرم الجامعي وسوق العمل. هم لا يَبحثون عن قبول رمزي، بل عن فرص عمل حقيقيّة والشعور بالأمان وشراكة فعّالة للتأثير في الاقتصاد.
الحروب تُغيّر المجتمعات، لكنها تكشف أيضًا مَن نراه ومَن نتجاهله. منذ أكتوبر 2023، دخل جيلٌ كامل من الشابات والشبان العرب في تجربة وجوديّة معقّدة، وباتَت هذه التّجربة مليئة بالقلق والمواجَهة الفرديّة مع واقع لا يُنصِفهم.
هذا الجيل - جيل Z والجيل الذي يليه - جيل رقمي وواعٍ وسريع التكيّف، لكنه يبحث عن معنى وهوية وانتماء. لا يريد مجرد وظيفة أو لقبًا، بل يريد أن يشعر أنه جزء من الصورة. لا يسعى إلى "القبول" فقط، بل إلى الاعتراف والشّراكة والتّأثير الحقيقي.
واقع يومي لا يُحتمل
في الحرم الجامعي، حيث يُفترض أن يكون الفكر حرًّا، يعيش كثير من الطلاب العرب شعورًا متصاعدًا بالتّهميش وعدم الأمان. أما في سوق العمل، فيكتشفون أن الأبواب مُغلقة أو موارِبة أمامهم. قلّصت شركات الهايتك توظيفهم مقارنة بالسابق، وخطط الدعم بعد الحرب تتجاهلهم تمامًا - لا كمُجندين، ولا كنازحين، ولا كضحايا مباشرين. هم ببساطة خارج معادَلة التّعافي.
تواجه هذه الشريحة عقبات إضافية تُشكّل حاجزًا حقيقيًّا أمام الاندماج في سوق العمل: صُعوبات في اكتساب الخِبرة العمليّة بسبب قلّة الفرص المُتاحة، والمسافة الجغرافية التي تحدّ من الوصول لمراكز العمل الرئيسة. إضافة إلى الفَجوات الثقافية واللغوية التي تخلق حواجز تواصل غير مرئيّة في بيئات العمل.
هذه التحدّيات ليست جديدة، لكنها تتفاقم اليوم بوتيرة مُقلقة. الفجوات لا تُردم، بل تتسع أكثر فأكثر، مما يخلق دائرة مفرَغَة من الإحباط والتّهميش.
الأمر لا يتوقّف هنا. نحن كمجتمع نكابد مشاكل بنيويّة أعمق: ضُغوط نفسيّة متزايدة، وأوضاع مادية هشّة، وجرائم منظمة تنمو بلا رادع، وانعدام الأمن في الحيز العام وحتى داخل المنازل.
يَدفع هذا الواقع المُركّب عددًا متزايدًا من الشباب للتفكير في الهجرة - ليس بحثًا عن الحلم الغَربي، بل هربًا نحو النجاة.
من خلال عملنا في "كاڤ ماشڤي"، نلتَقي يومًّا بهذا الواقع المُعقد. نشهد الخريجين الجدد الذين يحملون شهادات ممتازة لكنهم يصطدمون بأسقف زجاجيّة غير مرئية. ونلاحظ النساء تحديدًا يخضن معركة مزدوجة - يكسرن أولًا الحواجز التقليديّة في مجتمعهن، ثم يواجهن عقبات مضاعفة بسبب الهوية والجندر معًا.
مؤشّرات أَمَل رَغم التحدّيات
رغم كلّ شيء، تظهر مؤشرات إيجابية لا يمكن تجاهلها. ارتفعت نسبة تشغيل النساء العربيات بعد الحرب إلى 49% في بداية 2025، مقارنة بـ 44.8% قبل الحرب، بحسب بيانات وزارة العمل – ما يعكس إرادة قويّة للدخول إلى سوق العمل رغم التحديات المركّبة، الاجتماعية والاقتصادية.
إلى جانب ذلك، شهدنا خلال الفترة الأخيرة اختراقًا تدريجيًّا لقطاعات كانت سابقًا مغلقة أمام الأكاديميين العرب، مثل التّسويق، والإعلام، والتحليل المالي، والموارد البشرية، ما يشير إلى اتّساع بطيء لكنّه ثابت في مواقع التأثير والتّمثيل داخل اقتصاد البلاد.
في ظلّ النقص الحاد في الأيدي العاملة، خاصة بعد غياب العمال الفلسطينيين والتجنيد الواسع، نجح عدد من الشباب العرب في إيجاد فرص عمل جديدة في قطاعات مثل البناء، والنقل، والصناعة.
ورغم أن هذه الفرص لا تُعتبر دائمًا مستقرّة أو استراتيجية، فإنها فتحت بابًا أمام شريحة واسعة كانت تعاني من تهميش مزدوج.
كما يَبرز مؤشّر إضافي بالغ الأهمية: ارتفاع عدد الطلاب العرب في التخصصات الهندسية والتكنولوجية في السنوات الأخيرة، ما يشكّل قاعدة بشرية ومهنية واعدة للاندماج المستقبلي في مجالات نوعية، وعلى رأسها قطاع الهايتك.
وعلى الرغم من أن هذه التطورات لا تزال جزئية، فإن قصص النجاح الفرديّة بدأت تتحول إلى موجات تأثير جماعية – من مبادرات شبابية محلية إلى مشاريع ريادية، ومن موظفات على خطوط الإنتاج إلى نساء في مواقع إدارية عليا.
هذه المؤشّرات، وإن كانت غير كافية لتغيير الصورة الكاملة، تُبرهن على أن المجتمع العربي يملك طاقات وكفاءات حقيقية، وما ينقصه ليس القدرة، بل المنظومة التي تتيح له فرصة عادلة.
دورُنا كمجتمع مدني - التّنوع كسيرورة، لا كشعار
في الآونة الأخيرة، لم يَعُد التنوّع على سلّم أولويات بعض المشغِّلين. لكن أولئك الذين فَهِموا أنه سيرورة وليس مجرّد هدف، بَنَوا بيئات أكثر تماسكًا وصمودًا في الأزمات. ونحن نعمل على بناء شراكات طويلة الأمد مع مشغِّلين يؤمنون بالتنّوع كقيمة أساسية، لا كديكور. ونبني جسورًا بين الأحلام والفُرص، بين الكفاءات والواقع.
نحن نرافق طلابًا جامعيين وخريجين، ونوفر لهم أدوات عملية وشبكات دعم. كما نرافق المدراء والمديرات العرب في مناصب إداريّة ليفتحوا الأبواب وخلق فُرص للجيل القادم.
في نهاية المطاف، يتحوّل الدعم المناسب والأدوات الصحيحة إلى قصص نجاح حقيقيّة - خريج هندسة يحصل على منصب في شركة تكنولوجية، أو امرأة تقود فريقًا في قطاع الخدمات الماليّة للمرّة الأولى.
دعوة للشراكة الحقيقية
لا يَطلب هذا الجيل امتيازات، بل يقدّم كفاءات حقيقية وقدرة على القيادة والتّغيير. التنوّع التزامٌ طويل الأمد بالعدالة والانتماء.
للحفاظ على الشباب العربي الأكاديمي، نحتاج شراكة حقيقية: الاعتراف بالكفاءات، وفرص عمل متكافئة، وبيئات عمل شاملة.
الاستثمار في هذا الجيل استثمار في مستقبل الاقتصاد الإسرائيلي. في مرحلة إعادة البناء، لا يمكن تَجاهل القوة البشريّة والإمكانيات الاقتصادية الهائلة في المجتمع العربي.
هذا ليس واجبًا اجتماعيًا فحسب، بل ضرورة اقتصادية واستراتيجية. الوقت الآن للانتقال من الأقوال إلى الأفعال.
