ساحات المَعرَكة الرَّقَميّة: حِسابٌ باسم "Gazawood" أَداةٌ لِنَزع إنسانيّة الفِلسطينيّين

"في زَمَن الخِداع الشّامل، يُصبِح قَول الحَقيقَة عملًا ثوريًّا".
— جورج أورويل

لَم تَعُد الحُروب اليوم تقتصر على ساحات القتال أو البيانات الرسميّة. الحَرب الحديثة هي مَعركة على الوعي، وعلى الرواية، وعلى الصورة التي تصل إلى الناس قبل أن يَصِلهم صَوت الرّصاص. أصبَحَت السّيطرة على السرديّة جزءًا لا يتجزّأ من السّيطرة على الواقع نفسه. وفي هذا المَشهد الجَديد، برزت حسابات رقميّة تدّعي كشف الحقيقة، لكنها في الواقع تعيد إنتاج الأكاذيب بطريقة أكثر خطورة، لأنها تتخفّى تحت عباءَة "التّدقيق" و"التّحَقُق". حساب "Gazawood" نموذج واضح لهذه الظاهرة: حساب يَنشُر الشكّ المَنهجي في كلّ ما يتعلقّ بالمعاناة الفلسطينية، ويحوّل كلّ شهادة ألم إلى مادة سخرية وتشكيك.

بدأت فكرة "Pallywood" في العام 2000 بعد بث مشاهد استشهاد الطفل محمد الدرّة، حين زَعَم صحافي أمريكي يُدعى ريتشارد لانديز أن المَشهد "مُفَبرك"، وأطلق مصطلحًا يجمع بين "Palestine" و"Hollywood" للتّشكيك في التوثيق الفلسطيني. ومع الوقت، تحوّل المصطلح من اتهام فرديّ إلى حملة واسعة تستخدمها حسابات ومنصّات منظمة، أبرزها حساب "Gazawood"، الذي بدأ نَشاطه أواخر عام 2023. منذ ذلك الحين، حقق الحساب نموًّا سريعًا، حيث وصل عدد متابعيه إلى أكثر من 70,000 متابع، وحقّق أكثر من 49 مليون مشاهدة خلال ثمانية أشهر فقط. لا يكتفي الحساب بالنّشر، بل يُعيد ترويج تغريداته عبر حسابات كبرى بشكل مكثّف، في ما يشبه حملة منظمة تهدف لتكثيف الشكّ وضَرب مصداقيّة أيّ محتوى يَأتي مِن غزّة.

نَشَرت منظّمة FakeReporter تحقيقًا شاملًا كَشَف أن أكثر من 94% من المحتوى الذي ينشره هذا الحساب يتضمن معلومات مضلّلة أو تلاعبًا متعمدًا، بالإضافة إلى دعاية عامة وسخرية أو مواد تهكميّة (ميمز) ضد الفلسطينيين، بينما لم تتجاوز المنشورات التي دحضت أخبارًا كاذبة أو مزيفة حقيقية نسبة 6%. لا يهدف هذا الحساب إلى تقديم رواية بديلة، بل إلى تقويض الثّقة بالحقيقة نفسها. الغاية ليست الإقناع، بل زَرع الشكّ المطلق بكل شيء. تتجاوز هذه الاستراتيجية التضليل؛ إنها تُشكل تهديدًا مباشرًا للوعي الجماعي ولنسيج المجتمع الإنساني، لأنها تزعزع مفاهيم أساسية، وتحوّل الحقائق الواضحة إلى مواضيع جدل، والمعاناة الحقيقيّة إلى مادة للسخرية. في هذا الفراغ، يسود عدم اليقين، وتغيب المعايير، مما يخلق بيئة من الفوضى المعرفيّة وعدم الاستقرار.

ما يجعل خطاب "Gazawood" أكثر خطورة ليس فقط اعتماده على الشكّ، بل الطريقة التي يُمارس بها هذا الشكّ. في مجموعاتهم المغلَقَة على تيليغرام، حيث يتم تنسيق الحملات، لا يتورّع الأعضاء عن استخدام لغة عنصرية صريحة، فيصفون صور الأطفال الشهداء بأنها "دمى بلاستيكية"، ويتندّرون على النساء الثكالى باعتبارهن "ممثّلات محترفات"، بل يصل الأمر إلى اتهام الفلسطينيين بـ"حبّ الجُثَث". ليست هذه اللغة مجرّد سَقَطات فردية، بل جزء من آلية كاملة تهدف إلى نزع الإنسانية عن الضحيّة الفلسطينية، وتجريدها من حقها الأساسي في الألم والحزن.

بعيدًا عن الحِسابات والصوَر الزائفة، تَقودنا خيوط التّحقيق إلى شخصية مشغّل حساب "Gazawood"، الذي يكشف عن مفارقة لافتة. فقد تبيّن أنّ من يقف وراء هذه الحملة الرقميّة هو رجل ألترا أرثوذكسي (حريدي) يعيش في القدس، يُدعى عيدان كانوخان. لا يُعرف عنه فقط انتماؤه الدينيّ المتشدّد، بل أيضًا تأليفه كتبَ خيال للأطفال، ينسج فيها عوالم سحريّة مليئة بالأبطال والمغامرات. المفارَقة المُرّة أن هذا الشّخص الذي يكتب قصصًا تُلهم الخَيال الطفولي، هو نفسه الذي يَنْشط في تشويه معاناة الأطفال الفلسطينيين، وينزع عنهم أبسَط معاني الإنسانيّة والبراءة. بين حياة يؤلف فيها كانوخان روايات لصغار يحتاجون الحُلُم، وحياة أخرى يَنشَط فيها لحرمان أطفال آخرين من حقهم في أن يُصدّقوا، تتكشف طبيعة مزدوجة تجمع بين الخيال البريء والكراهيّة الممنهجة. وكأن الطفل الفلسطيني في نظره، لا يستحق أن يكون بطلًا في قصة، ولا حتى أن يكون ضحية في واقعٍ دامٍ.

لم يَعُد التّشكيك اليوم يهدف إلى دحض الأدلة، بل إلى تقويض فكرة أن هناك حقيقة يمكن الوثوق بها أصلًا. في ظل مئات التغريدات والمنشورات اليومية التي تبث الشكّ، يصبح كل فيديو موضع تساؤل، وكل صورة محاطة بالرّيبة، وكلّ شهادة معرّضة للاتهام. بهذه الطّريقة، لا يقتصر أثر "Gazawood" على تضليل الرأي العام، بل يَمتد إلى خَلق حالة من الشّلل المَعرفي، حيث تُصبح قُدرة الناس على التّمييز بين الحقيقة والزّيف شبه مستحيلة. وهنا، يتحوّل القَتل إلى مجرّد "رواية محتَمَلة"، والمعاناة إلى مادّة للجدل، بدلًا من أن تكون صرخة للعدالة.

خلال الحرب الأخيرة على غزة، بَرَز دور "Gazawood" بشكل خاص مع انخفاض عدد المشاهدات الفوريّة للأحداث العنيفة، ما دَفَع الحساب إلى تغيير أسلوبه، من التّشكيك المباشر في المقاطع المصورة، إلى التحوّل إلى السُخرية وصناعة "الميمز"، مستخدمًا الأسلوب الهزلّي لاستمرار بثّ رسائل التّشكيك والكراهية. تعكِس هذه التحوّلات مرونَةَ هذه الحسابات، وقُدرَتها على التكيّف مع الظروف، لكنّها أيضًا تفضح مدى استعدادها لاستخدام أيّ وسيلة لضرب صورة الفلسطيني في الوعي العام.

في هذا السياق، أصبحت الكاميرا نفسها هدفًا للهجوم. بعدما كان توثيق المظالم سلاح الضعفاء، تحوّل اليوم إلى مادة للتشويه. لم تَعُد الصورة وحدها كافية للدفاع عن الحقيقة. بل باتت تَحتاج إلى من يَحميها من ماكينة التّشكيك الجماعي التي تعمل ليل نهار لإفراغها من معناها.

لم تَعُد الحرب تدور حول من يَقتل أكثر، بل حول من يستطيع أن يمحو الحقيقة أولًا. في عالمٍ تسوده الأكاذيب الكبرى، تُحارب الحقيقة أولًا بالصمت، ثم بالسخرية، ثم بالعنف، وأخيرًا تتحول إلى رواية خفيّة لا أحد يجرؤ على تصديقها أو الدفاع عنها. اليوم، يبدو أننا نعيش المرحلة الثالثة. والمَسألة لم تَعُد إن كانت الأكاذيب ستنتصر، بل متى ستصبح واقعًا مسلّمًا به لا يقبل النقاش.

الرهان الآن ليس فقط على توثيق الجرائم، بل على حماية الذاكرة الجماعية نفسها من المَحو. مع كلّ صورة تُسخف، مع كلّ شهادة تُتهم بأنها تمثيل، مع كلّ دمعة يُقال عنها إنها خدعة، نخسر جزءًا آخر من الحقيقة، وجزءًا آخر من إنسانيتنا المشتركة.


الإحالات:

https://forbiddenstories.org/gazawood-israeli-ngo-links-account-disinformation/

https://www.the7eye.org.il/548969

غسان مطر

باحث في شبكات التواصل الاجتماعي، ومتخصص في التحقيقات المعتمدة على المصادر المفتوحة (OSINT) في منظمة "فايك ريبورتر".

رأيك يهمنا