شَرِكات "الهايتك" العالميّة: وَقائع إِسكات الصَوت المُناصِر لِفِلسطين

آثرت المهندسة والمبرمِجة ابتهال أبو السّعد، نُصرَةَ الحَقّ على أحلامها، حين وقفت وحيدةً وسط الحشود، في الاحتفال بالذكرى الـ 50 لتأسيس مايكروسوفت، متهمةً إيّاها دون تردّد، بالتواطؤ في حرب الإبادة على غزة، مَن خلال تقديمها تقنيّات ذكاء اصطناعي لإسرائيل في حربها على القطاع.

"أعظم مخاوفي هو أن أستيقظ في يوم عادي للعمل لأكتشف أنّ الّذي كتبته ربما لعب دورًا في قَتل الأطفال"، قالت ابتهال في تَصريح لها عَقِب فصلها من العمل.

تلعب شركات التكنولوجيا العالمية الكبرى دورًا محوريًّا في تقديم خدمات التخزين وتقنيات الذكاء الاصطناعي لإسرائيل، والّتي تُستخدم في جمع البيانات المتعلّقة بالفلسطينيين. كما تسعى هذه الشركات إلى قَمع الأصوات المناصِرة للقضية فلسطينية داخل مؤسساتها، وتقييدها على منصات التواصل الاجتماعي.

في 22 تموز، تعهد 100 موظف في الدّعم الفنيّ في مايكروسوفت، برفض التّعامل مع طلبات الدعم الفني والتقني الصادرة عن الجيش الإسرائيلي، ويأتي هذا التعهد في ظلّ الحصار والمجاعة المتفاقمة في قطاع غزة.

تحيّز واضح لصالح إسرائيل

وفقًا لتقرير أصدره مركز حملة- المركز العربي لتطوير الإعلام الاجتماعي، هُناك تحيّز ممنهَج وواضح لصالح إسرائيل داخل بيئة العمل في كبرى شركات التكنولوجيا العالمية، مثل جوجل، وآبل ومايكروسوفت.

بحسب الشهادات التي جُمعت من موظفين عرب في هذه الشركات، هناك نمط ثابت في التّعامل مع المحتوى المتعلّق بفلسطين، حيث كانت الإدارة تَحذف هذا النوع من المحتوى من مجموعات الموظفين، وأحيانًا كانت تُحيل بعضهم للامتثال أمام لجان الانضباط، بحجّة أنّ المحتوى سياسي. بينما كان يُسمح بنشر محتوى داعم لإسرائيل في مجموعات الموظفين، حتى لو اتّسم بالعنف.

على سبيل المِثال، نَشَر أَحَد الموظَّفين الإسرائيليين رسالة أعلن فيها أنّه سيؤدي الخدمة في الجيش ولم يُتّخذ أي إجراء بشأنها، على الرغم مِن حساسية الموضوع بالنسبة للموظفين الفلسطينيين. في المقابل، كانت تُحذف حملات التبرُّع الداعمة لأطفال غزة.

كما كانت هُناك محاولات في شركة أمازون وجوجل مِن موظفين لمنع مشروع نيمبوس.  لم تَسمح الشّركات بهذا القَدر من الحرّية، وسُجّلت حالات فَصل للموظفين المعارضين للمشروع. 

التحدّيات الّتي تواجه المهندسين العرب في أماكن العَمل

"هناك سياسة واضحة، وإن لم تُعلن رسميًّا، وهي قمع الصوت الفلسطيني. كنا قد أَنشأنا نحن موظفو الشّركة مجموعة على واتساب لمناصرة القضية الفلسطينية. كانت الشركة تحذف أي محتوى يتعلّق بفلسطين"، يقول أمير (اسم مستعار، 29 عامًا)، موظف سابق في إحدى شركات التكنولوجيا العالمية العاملة في البلاد.

"أنت ناكر للجميل، اعتقدت لأنك مثقف ستقف مع الحقّ"، فوجئ أمير بظهور هذا التّعليق أسفل منشور أعاد مشاركته، والّذي وُصف فيه قصف إحدى المستشفيات في قطاع غزة بـ"جريمة حرب".

عقب هذه الحادثة، تعرّض أمير لحملة تحريض واسعة، حيث نُشرت صورته وتفاصيل مكان عمله تحت عنوان "هذا الشخص يدعم الإرهاب".

"حَذَفت الشركة التي أعمل بها منشورات التّحريض من مواقع التواصل الاجتماعي، لكنها لم تتّخذ أي إجراء فعليّ تجاه زميلي الذي كان السبب المباشر في انطلاق حملة التّحريض ضدي. لم يكن هذا الموقف الوحيد، في بداية الحرب نشر اثنان من زملائي محتوىً عنصريًّا يُحرّض على قتل الفلسطينيين، واقتصر التّعامل مع الأمر على حذف المنشورات فقط. بينما لو كان موظفًا عربيًا، ألم يكن ليواجه فصلًا فوريًا؟ بعد هذه المواقف، قرّرت تقديم استقالتي والانتقال إلى فرع الشركة في واشنطن"، يُتابع أمير.

في واشنطن لم يكن الوضع مختلفًا، إذ يروي أمير: ""كان لدينا أيضًا مجموعة على واتساب تهتم بمناصرة القضية الفلسطينية. استطعنا بجهود جماعية استعادة صفحات أُغلقت، مثل صفحة "عين على فلسطين"، وصفحات تابعة لناشطين وصحافيين من القطاع، مثل صفحة الصحافي أنس الشريف ومعتز عزايزة. لاحقًا، تمّ طرد نحو 40% من الموظفين المشاركين في هذه المجموعة، وكنت من بينهم".

كيف يُواجِه الفلسطينيون زملاءهم الإسرائيليين في بيئة العمل؟

تجربة ريم لا تختلف كثيراً عن تجربة أمير، وقد تكون أشدّ بسبب ارتدائها الحجاب. تقول ريم (اسم مستعار، 36 عامًا)، التي كانت تعمل في إحدى شركات التكنولوجيا الأمريكية في البلاد، "في بداية الحرب، كان زملائي يتحدّثون عن قضايا سياسية، وكنت أتجنّب الخوض معهم في هذه النقاشات، إذ لم أَشعر بوجود مساحة آمنة لإبداء رأيي".

وتتابع: "لم تكن العنصرية تزعجني، فأنا معتادة عليها، ما كان يُشعرني بالضّيق هو أحاديثهم حول الحرب، مِنهنّ من تتحدّث عن زوجها الّذي ذهب ليؤدي خدمة الاحتياط، وأخرى عن أهلها الذين سافروا لأنهم ينزعجون من سماع صفارات الإنذار، أو عن اضطرارهم لدخول الملجأ، بينما أنا جلّ تفكيري بأهل غزة".

تروي ريم أنها في بداية الحرب شاركت منشورًا على فيسبوك تصف فيه ما يجري في غزة بـ "حرب إبادة"، فاعترضت إحدى زميلاتها في العمل، قائلة: "أعتذر، لم يعد يهمّني شيء".

"فوجئت حينما علمت أن أحد زملائي في الشركة هو طيّار عسكري، وانتابني الضيق لأنني عملتُ معه سابقًا على مشروع معين. زميل آخر جاء لزيارتنا بزيّه العسكري، متفاخرًا أنه دخل القطاع دون حاجز، كان الموقف صعبًا، بقيتُ قليلًا، ثم ابتعدت عن المكان".

قرَّرت ريم بعد هذه الأحداث، ألّا تعمل في شركة تكنولوجيا إسرائيلية. ثم بدأت العمل في فرع إحدى الشركات العالمية داخل البلاد.

"أعربت إدارة الشركة عن فخرها بكوني المسلمة الوحيدة ضمن طاقمها في تل أبيب، بينما كان كلّ تركيزي منصبًّا على إثبات نفسي وتطوير ذاتي لأتمكّن من الانتقال للعمل في أوروبا.

خلال إحدى رحلات العمل إلى أوروبا، عرّفني مديري على أنّني "ريم القادمة معنا من تل أبيب".

توضّح ريم أنّه ولأول مرّة، أثناء وجودها في أوروبا، شَعَرت بعدم الخوف من إبداء رأيها، وذلك خلال نقاش سياسي دار بين طاقم العمل.

وتتابع: "قال أحدهم، 'لماذا لا نصلي سويًّا في الأقصى؟'، وكأنّ المشكلة تتمحور حول الصلاة! أذكر أنني توجهت لمديري خلال النقاش وقلت: 'بعد قليل ستنكر وجود احتلال'".

"بعد العودة من رحلة العمل في أوروبا، قررت ألّا أكون الوجه الذي يُبيّض الاحتلال، حتى لو كان ذلك على حساب الوظيفة الّتي حلمتُ بها، ودرست الماجستير في مجال علم البيانات خصيصّا لأتمكّن من الحصول عليها"، تُضيف ريم.

بدأت ريم بتقديم خدمات تقنيّة في مستشفى، ظنّا منها أنّ التّحديات ستكون أقل. تقول ريم: "في الفترة التي عملتُ بها، تم فيها اقتحام مستشفى كمال عدوان وتهديد الطبيب حسام أبو صفية، لم أستطع إكمال عملي، فقدّمت استقالتي. 

كغيرها من المهندسين العرب في البلاد، ترى ريم أن فرص إيجاد مكان عمل مناسب محدودة، "الإمكانيات في البلاد لا تشبهني ولا يمكنني العمل في شركات عالمية مثل ميتا وجوجل ومايكروسوفت، حتى لو كان في مشروع لا علاقة له بالإبادة. حاليًّا أعمل على تطوير مهاراتي لأخدم أبناء شعبي والقضيّة، رغم عدم وجود عائد مادي كالسابق"، تُنهي ريم.

هل ما زال مستقبَل الهايتك واعدًا في البلاد؟

تقول ميسم جلجولي (مديرة عامة في تسوفن- تشبيك): " بداية الحَرب أَجرَينا استبيانًا شمل المهندسين العرب في البلاد، وتبيّن أنّ 80% منهم يُعانون من تضييقات ويَشعرون بالخوف من التّعبير عن آرائهم".

تشرح جلجولي، أنّ الأزمة الأبرز اليوم تتمثّل في غياب وظائف شاغرة للخرّيجين الجدد في مجال الهايتك، وذلك نتيجةً لقطع الاستثمارات في أعقاب الحرب، إضافةً إلى حملات المقاطَعَة في ظلّ الضّغط الدولي.

كما أنّ شركات التكنولوجيا في البلاد، تُفضّل الموظَّف اليهودي على الموظَّف العربي، لا سيما أولئك العائدين من خدمة الاحتياط، وتفاديًا للحساسيّة في مكان العمل.

"المهندس العربي في البلاد يخاف من إظهار هويّته وقصّته، بعضهم كانوا يتجنّبون الحديث بالعربية. لكن من المهم أن يعمل المهندس العربي في البلاد على تطوير ذاته، والأهم ألا يخاف من إبداء رأيه وإسماع صوته في مكان عمله"، تقول جلجولي.

ملاك عروق

حاصلة على لقب أول في مجال الإعلام والعلوم السياسية. ناشطة اجتماعية وسياسية. مهتمة بإنتاج الوثائقيات وكتابة المقالات

رأيك يهمنا