انقِلاب الصّورَة: كَيفَ تَحَوَّلَت فِلِسطين إلى رَمزٍ قِيَميّ عالَمي؟

مَع اكتمال العام الثّاني من حرب الإبادة والتدمير والتهجير، التي تَشنّها إسرائيل ضدّ الشعب الفلسطيني في غَزة ويَجري مَدُّها بالتّدريج إلى الضّفة، وما اقترفَته من جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانية، علاوة على كُبرى الجرائم وهي جَريمة الإبادة الجَماعيّة (Genocide)، يُبشّر قادةُ إسرائيل جمهورَهم بأن العامَ القادم هو عامُ حَرب وقتال مثلما أكد رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو مرارًا وتكرارًا بقوله: إن الحرب لن تتوقف حتى تَحقيق أَهدافها الكاملة والنَّصر السّاحق، وتَلاه رئيس الأركان إيال زامير في خِطاب لِجُنوده لمناسبة رأس السَنة العبريّة الجَديدة. تتكرَّر هذه التأكيدات على استمرار الحَرب على الرّغم من إدراك معظم الإسرائيليين بأن هذه "الانتصارات التَّكتيكيّة" تقود حتمًا إلى "هَزيمة استراتيجية"، وأنّ إنجازات نتنياهو هي في الحقيقة خَسائر مؤكَّدة لإسرائيل، في ضَوء فشَلها في تحقيق أهداف الحَرب المعلَنَة، واتّساع مَوجات التّضامن الدوليّة العارِمة مع الشعب الفلسطيني وحُقوقه الوطنيّة، المندِّدة بالسّياسات الإسرائيلية، التي قادَت إلى عُزلة غَير مَسبوقَة في تاريخ إسرائيل، عُزلة آخذة في الاتساع يومًا بَعد يوم، وتُنذر بموجات متلاحِقة من العقوبات الرسميّة والشعبيّة ضد إسرائيل.
ليسَت هذه الجرائم أمرًا مُستحدثًا في الحروب الإسرائيلية، ولا تدابيرَ اضطراريّة لجَأت إليها دولة الاحتلال لافتقارها لوسائل أُخرى من أَجل قَهر أعدائها. فأيّ متابِع للتاريخ العسكري لإسرائيلي سيجِد أن المَجازر كانت دائمًا أسلوبًا معتمدًا في تَنفيذِ السّياسات وتحقيق أَهداف الرَّدع. حَصل ذلك قَبل إنشاء الدولة على أيدي عصابات "ليحي" و"ايتسيل" و"الأرغون"، ثم جَرى اعتمادها في كلّ الحروب التي خاضتها إسرائيل لاحقًا، وما أكثرها! بل استخدَمَتها حتى في أوقات السّلم إنْ وُجِدَت، وفي المَعارك بين الحُروب. وأمامَنا سلسلة لا تَنتهي من الأدلّة على ذلك: دير ياسين والطنطورة واللد والدوايمة وسحماتا خلال النكبة (1948)، وقبية (1953)، وخان يونس (1956) وكفر قاسم (1956)، والمَجازر ضدّ مئات الأسرى المصريّين خلال حرب 1967، وكفر أسد/ الأردن (1968)، وبحر البقر/ مصر (1970)، والطائرة الليبية (1973)، وصبرا وشاتيلا (1982)، وحمام الشطّ/ تونس 1985، وقانا/لبنان (1996) وصولًا إلى المجازر اليوميّة خلال الحَرب الحاليّة على قطاع غزة.
واصَلَت إسرائيل ارتكاب المَجازر وهي مطمئِنّة إلى أنّها في حِلّ من أيّ محاسَبة أو مساءَلة طالما أنّها محميّة من إدارات الولايات المتحدة، وأنّها قادرة على إِخماد صَوت الضحايا كما أَخمدت أنفاسَهم وأرواحَهم. ثمّ أنّها قادرة على تزييف الرّوايات وفَبْركتها، ومواصلَة احتكار دور الضحيّة وصورتها التي تَستجلب عطفَ العالم الغربي وتضامُنه، وحتى تفهّمه لما يسمّى "حقّ إسرائيل في الدّفاع عن نفسها" وما يُمليه ذلك من ضَرورة الحِفاظ على تفوّق إسرائيل العسكري على جيرانها، حتى لا يتكرّر ما حصل في "الهولوكست".
لكنّ الحَرب على غزَة قَلَبَت الصّورة رأسًا على عقب، وباتَ العالَم يرى أن إسرائيل ليست تلك الدولة الناعِمة الوديعة التي تنشُد السلام، وتوفّر ملاذًا آمنًا لضحايا المحرَقة، بل هي وَحش يعتاش على الحُروب، وتَقطِر يَداه وأسنانُه دمًا. وتَتباهى إسرائيل ليلَ نهار بفائضِ القوة التي تَملكها وبالحروب التي تَخوضها على سبع جبهات على الأقل، وبأنّ يَدَها الطويلة قادرة على الوصول إلى أيّ هَدَف.
تضافَرَت عوامل عدّة في إحداث التّغيير، أبرزها الصّمود الأسطوري للشعب الفلسطيني، ونَمَط مقاومَته النّابعة من إِرادة الناس، والّتي تَخْلق من العَدَم وسائل وأَدوات مبتكَرة لمواجهة المحتلّ، ولا تَعرفُ للاستسلام سبيلًا. هذا إلى جانب حَجم الفَظائع الإسرائيلية ونوعيّتها وتِكرارها اليوميّ على امتداد أكثر من 725 يومًا، والخِطاب الاستعلائيّ المشبَع بالعنجهيّة والغطرسة، إلى افتِضاح زَيف النّظام الدولي القائم، واختلال موازينه، وازدواجيّة معاييره. ثمّ ما أتاحَته ثورة الاتصالات والإعلام الجديد من إمكانيات لنقل الأحداث من قَلب جحيم غزة إلى أرجاء العالم كلّها خلال ثوانٍ معدودة، وهكذا تعرّف العالَم على قصصٍ وحِكايات مِثل قصّة هند رجب، والطبيبة آلاء النّجار وأطفالها، ومسعفي "الهلال الأحمر" والدفاع المدني، و"روح الروّح"، وقوافل الصحافيين والطواقم الطبيّة، وعشرات آلاف الأطفال المُجوّعين، وغيرهم وغيرهم.
ساهَمَ ما سَبَق كلّه في تحوّل قضيّة غزة وشعبها إلى قضيّة للعالَم بأَسره، كَرَمز للظّلم الفادح، وقَسوة الإِنسان والسّياسة، وبشاعَة النّظام الدّولي، وعَجْز مؤسَّساته عن وَقف الحَرب وحِماية الضّحايا. ولَدى الحَديث عن العَجز والتّخاذل تَجدر الإشارة إلى عَجز النّظام العربي بمؤسساته كلّها، حيث فَشِل العرب في إدخال أبسط مقوّمات الحياة إلى غزة، بل حافَظَت بعض الدول العربيّة على علاقاتها السياسية والتجارية والأمنية مع إسرائيل في أَسوأ ظروف حرب الإبادة.
على الرَّغم مما تعرّضت له حَمَلات التّضامن مع فلسطين من محاولات شيطَنة وتَجريم، واتهامها بمعاداة السّامية، والإجراءات الانتقامية التي طاوَلَت أبرز ناشطيها من اعتقال وترحيل وفَصل من العمل أو الدراسة وبخاصة في الولايات المتحدة، فقد تجاوَزَت موجات التّضامن العوائق والقيود كلّها، وتحوّلت إلى مَوجات عارِمة لا يُمكن الوُقوف في وجهها، حتى أنّ المحللين الإسرائيليين شبَّهوها بموجات الـ "تسونامي". تجاوَزَت هذه المَوجات الحُدود الجغرافية والقومية والدينية فاتّسعت وامتدَّت لتشمل بلدانًا لا وُجود لجاليات عربية أو إسلامية مؤثّرة فيها مثل اليابان وكوريا الجنوبية، وشَمِلت بلدانًا تَبعُد آلاف الأميال عن فلسطين والشّرق الأوسط ومنها أستراليا ونيوزيلندا والمكسيك فضلًا عن دول أميركا اللاتينية التي اجتمعت مواقفُ حكوماتها وشعوبها على دَعم فلسطين وإدانة الجَرائم الإسرائيلية.
تحوَّلت قضيّة غزة وفلسطين إلى رَمز للحريّة والعدالة وسائر القيم الإنسانية الخالدة؛ أيّ إلى قضيّة وطنيّة داخليّة لكلّ شَعب، وليسَت مجرَّد تضامُن مع شَعب بعيد، فالضمير الإنساني السويّ لم يَعُد يحتمل مَشاهد الفظائع والتّجويع وحَرق الأطفال، لم يَعُد البَشر قادرين على متابعة حياتهم مع مَشاهد الجرائم في بثّ حيّ ومباشِر، ولا شكّ أن هذه المَوجات أثَّرت وستؤثّر على مواقف الحكومات ومَراكز اتّخاذ القَرار وهو ما يفسِّر انعطافة مواقف الدول التي ظلّت داعمة لإسرائيل طِوال عُقود، لكنّها حاولَت التكيّف مع هذه الموَجات العارمة فكان أَنْ اعترفَت بدولة فلسطين.
أخيرًا، مِن الواضِح أنَّه في البلاد التي يَحكُمها القَمع والخوف والاستبداد لا نَلمَس حضورًا قويًّا لِمِثل موجات التّعاطف والتّضامن هذه إلّا في أَوساطِ النُخَب، والأمر عينه في الدّول الّتي يُكابِد سكّانها من أجل لقمة الخبز أو يعيشون في ظلّ مَخاطر الحروب الأهليّة والدول الفاشِلة، لكن حيثما توجَد مساحات واسعة للحريّة، ينحاز الناس تلقائيًا لقيم العَدالة ولفلسطين وشَعبها.

نهاد أبو غوش
كاتب وصحفي، وباحث في مركز تقدم للسياسات وعضو المجلس الوطني الفلسطيني.