المَحْو الرَّمْزِيّ، وَكَيفَ نُعَرْقِلُه؟

في زَمَن تتشظّى فيه الكَلمات أَمام هَول المَشهد، تبدو غزّة كَجرح مفتوح على امتداد الوعي. تتداخَل الحيرة مع الصّمت، وتتماهى الفَجيعة مع اليوميّ حتى يصعُب التّمييز بين الألم الطبيعيّ والمَوت الجَماعي. كلّ شيء هناك مأخوذ إلى أقصاه: الخَسارة، والخَوف، والتّهديد، والانهيار. لم يَعد الموت مفاجئًا، ولا البَقاء مضمونًا، ولا النّجاة طوقًا للراحة. في هذا الواقع، يتآكل المَعنى وتتآكل معه مَلامح الإنسان، كأنّ من يَعيش هناك لا يُسمَح له بالانتماء الكامل لفكرة الحَياة، بل يظل معلّقًا بين الفَقد والبقاء، بين ما يُمحى وما يُراد له أن يَصمد.
حين نَنظر إلى جَوهر الكائن الحيّ، نَقف عند غريزته الأولى، ذلك الدّفع الفِطري نَحو البقاء. والصّمود، في هذا السياق، لا يُفهم كبطولة، ولا يُختزل في خَيار، بل يَظهر كاستجابة بيولوجية–نفسية ضدّ الانقراض. إنّه تمسّك غريزي بالحياة، وإدراك داخلي بأن الاستسلام هو الوَجه الآخر للموت. وكما لا يُبنى "هَرم ماسلو" دون قاعدة وجوديّة، فلا مَعنى لأيّ احتياج إن لم يكن للإنسان مكان لوجوده أصلًا. تتصدّع هذه القاعدة في غزة، حيث يُنتزع الوُجود من مَعناه، حين تُقصف البيوت، وتُبتر الأجساد، وتُمحى الأسماء، ويصير الصّوت صدى بلا مستقر، يُختزل الإنسان إلى ظلّ، ويغدو السُّكوت هو اللغة الوَحيدة التي لا تُقصف.
عندَما نتحدّث عن الصَّدمة فهي لا تَبدأ عند وقوع الحَدَث المروّع، بل عند وُقوعه دونَ شاهِد، وحين يَصرخ الإنسان جاثيًا تحت الرّكام، ولا يَسمعه أَحد، وحين يُنتهك جَسَده وكرامته على مرأى العالم، ولا يُلتفت إليه. إنّ المُرور بتجربة موجِعة في عُزلة شعورية تامّة هو ما يحوّل الأَلَم إلى صَدمة؛ ثقبٍ نفسيّ يتّسع كلّما مضى الوقت دون اعتراف أو استجابة. يتحوّل هذا الثَّقب، إن تُرك مفتوحًا، إلى دوّامة وجودية، تتكرّس وتتعقّد، وتغدو اضطرابًا نفسياً يُعيد الحَدث مرارًا في الجَسد والذاكرة واللغة. وإنّ الموت هنا لا يَقع على الجسد فقط، بل على المَعنى، فالإنسان لا يَموت حين يُقتل فقط، بل حين يُمحى رمزيًّا، حين لا يُكتب اسمه، لا يُبكى عليه، ولا يُروى عنه، ولا يَجِدُ صوتُهُ طريقًا إلى اللغة. في هذا المَحو، تُسلب الضحية مِن مكانِها في الذاكرة الجَمعيّة، ويُطرد حضورها من الحكاية. تَبقى على قَيد الحياة بيولوجيًّا، لكنها ميتة لغويًّا، ونفسيًّا، ووجوديًّا. يتجلّى هنا وجهُ الإبادَة الأكثَرَ قسوة، ليس في قَتل الجَسد، بل في مَحو الاعتراف، ولا يَحدث الموت مرّة واحدة، بل يتكرّر بِلا نهاية. (والحَديث هنا عن أرواح آلاف الضحايا مجهولة الاسم والهوية).
مُقابل هذا الألم الفرديّ والجَماعي، تتفاوت استجابات الناس عند انكِشافها له؛ فَهُم يتفاعلون عادةً مع من يُشبههم، مع من يتشارَكون معه اللغة أو المَلامح أو التاريخ. لكن اللافت في الحالة الفلسطينية هو شدّة الانفصال الوُجداني الذي يُقابِل به العالم معاناتهم، كأنّهم دائمًا بعيدون رمزيًّا وإنسانيًّا. إذ حين يُصوَّر الفلسطيني ككتلة غامضة، كأرقامِ بلا أسماء، كَوُجوه مَطموسة أو غائبة، يُجرَّد من صِفَته كإنسان، ويُعاد إنتاجه كضجيج مشوَّش لا يثير ردّ فعل. لا يَنبُع هذا الانفصال من الفَراغ، بل يتغذّى من سرديّة مهيمنة تُعيد تَموْضع الفلسطيني خارج حدود "الذات المستحقّة للتعاطف". وبهذا، تتكرّس فجوة وجدانيّة لا يُمكن رَدمها، إذ يُقتل الآلاف دون أن يُسأل أَحَد عن أسمائهم، عن وجوههم، عن أحلامهم. في هذا التّغييب، لا يُفقَد الجَسَد فقط، بل يُسلب السِّياق، ويُنتزع الحقّ في الحُزن. عِند هذه الفَجوة تحديدًا يَعمل الإعلام الاستعماري، فلا يَكتَفي بنَقل الخبر، بل يَصوغ الحُزن ويحتَكر السّرد؛ فيَمنح وجوهًا لضحاياه، يُسمّيهم، يَبني لهُم سرديّة ويُنتج شرعيّة رمزيّة تبرّر رُدود الفِعل العالميّة. في المقابل، يُمحى الفلسطينيّ من هذه المعادَلة، ويُختزل إلى رقم، إلى ظلّ، إلى خَبر عابر لا يَستدعي الأسى. وحين يُمنع الحُزن، يُمنع الاعتراف، ويُصبح موت الفلسطينيّ غير جدير بالحِداد، لأنه لم يُعترف به كإنسان مكتَمل من البداية.
لكن هذا التّغييب لا يُنتج فقط فجوةً شعورية، بل يُطلِق سلسلة من الدّفاعات النفسية التي تُحصّن الوَعي من الانهيار، ولَو على حساب مَحو الآخر. فحين تُغرقنا صور المعاناة في تدفّق بصري مجرّد من التفاصيل الإنسانية، يُفعّل لدى المتلقّي نمطٌ من الدفاعات النفسية التي لا تكتفي بتجنّب الألم، بل تسعى إلى مَحوه من الوعي. فلا تُواجَه الصّرخة بالإصغاء أو التّماهي، بل تُسكت عبر آليات متراكبة تُعطّل أثرها العاطفيّ، فتبرز هنا دفاعات من نمط الإنكار، والتّحييد، والانشقاق، التي تمكّن الأنا من تحمّل التوتر النفسي دون تفكّك. ومع تكرار التعرّض للمأساة دون استجابة وجدانية مقابِلة، يحدث نوع من التبلّد والتخدير، وتتحوّل الصدمة إلى مشهد اعتيادي يُستهلك بصريًّا دون أن يخترق الحاجز الشعوري. يلي ذلك نَزع السّياق الرمزي فتُفصل المعاناة عن سرديّتها، وتُختزل الأجساد إلى صُور مجرّدة أو أرقام إحصائيّة. بذلك، تُنتزع الصّفة البشريّة، وتُلغى الذّات.
مع تَراكم هذه الدفاعات، تَنتقل عملية المَحو من مجرّد تبلّد بصري إلى طَرد رمزي عميق، حيث لا تُقصى الضحيّة لأنها "بعيدة"، بل لأنها تُهدد تماسُك الذات الجمعيّة، وتُعيد تفعيل هشاشات لا يمكن احتمالها. ففي مستويات لا شعورية أعمَق، تَعمل آلية الإسقاط العكْسي، حيث تُدفع الضحيّة خارج تمثيل الذات الجَمعيّة، لأنها توقظ في الوَعي الجَماعي محتوى نفسيًّا لا يُحتمَل كالضّعف والخوف وسهولة الانتهاك. هنا، لا تُرفض الضحية فقط، بل يُعاد إنتاجها كتهديد لهشاشة داخلية لم يُعترف بها. في هذا السياق، يتلاشى التّماهي الرّحيم، ويحلّ محلّه إنكارٌ مزدوَج: إنكار للمأساة كي لا تُستحضَر الذات الجريحة، وإنكار للذات الجريحة كي لا تُستحضَر المأساة. وهكذا، لا يُسكت الصَوت لأنه لا يُسمع، بل لأنه يُوقظ ما لا يُطاق، وتُجهَض الصّرخة لا من الخارج فقط، بل من داخل لاوعي جَمعي يسعى إلى حماية تكامله النّفسي، ولو على حساب إبادة رمزية للآخر.
في ظلّ ما تَعيشه غزة اليوم، يصبح الصَّمت العالمي أكثر فتكًا من القنابل ذاتها. ورغم الأصوات التي تَرفع شعار التضامن أو الإدانة، لا يُترجم الغَضب إلى فعل يوقِف الحرب. وحين ينبثِق الحزن والعجز دون أن يَصحبهما وعيٌ وسلوك، قد يتحوّل إلى حالة تَخدير ناعمة؛ إذ يُريح المتلقي من ثِقل الذنْب دون أن يُكلّفه شيئًا، فيصبح الحُزن العابر شكلاً آخر من أشكال التّحييد، ويصبح العجز، وإن بدا إنسانيًا، امتدادًا للدفاعات النفسية التي تحوّل المأساة إلى مشهد لا يُطاق، فيُدفَع بعيدًا عن الذات، ويتلخّص في خبر مألوف يُستهلك ويُنسى. ولأن بلاء غزّة ليسَ وَليد اليوم ولا الأمس، بل حلقة في سلسلة نكبةٍ مستمرة، فإنّ فهمَ هذا العجز لا يكتمل دون العَودة إلى الجَرح الأَصل. فما يعيشه الفلسطيني — في أيّ مكان — هو صدمة جَماعيّة متراكبَة لم يُعترف بها يومًا، لا في القانون، ولا في السّرد، ولا في الذاكرة. تقول جيسيكا بنجامين: إنّ الشّفاء لا يحدُث إلا عَبر الاعتراف، من الذات ومن الآخر. لكنّ الفلسطيني حُرم من كليهما: في صَمت الجيل الأول - خوفًا من استعادة الفَقد، وسعيًا في استمرار الحياة بدون جلبة؛ وفي انكار المعتَدي لفعلِه ولوجود الضحيّة. وبين هذا الصّمت وذاك، تحوّلت النكبة إلى حالة نفسيّة مزمنة، تتكرّر في الجَسَد، في اللغة، وفي الذاكرة الجَمعيّة. ومع كلّ جولة عنف، تتضاعف طبقات الجَرح، وتتشتّت داخليًّا، حتى تغدو كضوضاء داخلية لا تُحتمل، فيقوم الفرد — بوعي أو بدونه — بالتّخلص منها أو إقصائها إلى هامش الشّعور.
في خضمّ هذا الإنكار المتعدّد، تغدو مَفاهيم مثل "الحَصانة النفسية" و"السّلامة" فاقدة لسياقها الأخلاقي والسياسي. إذ لا يُمكن الحديث عن التّعافي أو تنمية المهارات النفسية في بيئة يُنكر فيها الاعتراف بالضحية، وتُجرَّد فيها من إنسانيتها، ويُفرَغ فيها المَعنى من أيّ مرجعية وجدانية أو قانونية. في هذا السّياق، تصبح الدّعوة إلى "بناء الحَصانة" كما تُطرح غالبًا في الخطابات النفسية السائدة غير ملائِمة، بل قد تبدو منفصلَة عن الواقع أو حتى مهينة ضمنيًا. ذلك أنّ شروط الحدّ الأدنى للكرامة الإنسانية من مأوى، وأمان، واعتراف، تُعتبر في هذه الحالة غائبة أو مدمّرة. فالحَصانة النفسية لا تُبنى في الفراغ، ولا يمكن فَصلها عن البنية المادية–الرمزية التي تَحتضنها. فحين يُمحى السّياق، يُمحى كذلك المعنى النفسي لأيّ أداة أو مهارة.
وعليه، لا يَعود مفهوم الحصانة مرتبطًا بالرفاه النفسي، بل بالمقاومة الوجوديّة. ليس كسلوك يمكن اكتسابه، بل كمجهود قَهري للبقاء. وهنا تفقد النّجاة معناها الرمزي كعلامة على الصمود، وتتحوّل إلى عبء متواصل، إلى حالة شِبه بدائية من الحفاظ على الحدّ الأدنى من الحياة. كما عبّر أحد الناجين: "لا نحتاج إلى تحليل سياسي أو توقّعات للمفاوضات، بل إلى طُرق للنجاة من القصف، من الردم، من الركام. كيف نُطفئ الصاروخ؟ كيف نُخرج أجسادنا من تحت الأنقاض؟ كيف ننجو؟". بهذا، يَنكَمش أُفق الإنسان ليقتصر على ما يستطيع الإفلات منه، لا ما يَسعى لتحقيقه. ويتحوّل مفهوم "العيش" إلى مجرّد "نجاة"، تُقاس فيها القيمة الإنسانية بالبقاء لا بالكرامة، وباستمرارية الجسد لا بامتلاء الروح. لذلك، إنّ ما يَجري ليس فقط إبادة جسديّة، بل اجتثاث رمزي–ثقافي، وطمسٌ للمَعنى وإلغاء للوجود من النص الإنساني ذاته.
ربما، لا يَبقى أمامنا إلّا أن نُعيد تشكيل الوجود بما نَملكه من كلمة، وصورة، ورسمة أو حتى ندبةٍ على جدار، فحين يَصمِتُ العالَم، يَشْهَدُ الأَثَر. من هُنا، تأتي الكِتابة — أو أيّ فِعل توثيقي — كفعلٍ مضادّ. صحيح أنّها لا تُعيد الموتى، لكنّها تُعيد لهم أسماءهم، وتُربك آلية المَحو، وتُقوّض المشروع الاستعماري الذي يَسعى لدَفن الضحيّة في العَدَم. لذلك، لا بدّ أن نكتب، أن نرسم، أن نُوثّق، أن نَروي، أن نَحمل في كلماتنا وصورنا وحكاياتنا مَن لا صوت لهم. فالتّوثيق هنا ليس أرشفةً للماضي، بل مقاومة للحذف، وإحياءٌ للمعنى، ورفضٌ لأن يُختزل الإنسان إلى غياب أو يُحوَّل إلى مجهول.

نوّار مصاروة
متخصّصة نفسيّة علاجيّة، تعمل في مجال الصحّة، وتَبحث في موضوعات النّفس والاجتماع.