النَّجاة وَما بَعْدَها: تَأَمُّلات ذاكِرَة مَثْقوبَة

نَجَوْت، كلمة قَصيرة، لكنّها كجدار ثقيل أَجرُّه معي كلّ يوم. حين أَقول "نَجَوْت"، لا أعني أنّني فعلاً على قَيد الحياة، بل أنّ روحي ووعيي ما زالا يتلمّسان الطريق، وأنّني ما زلت أتنفّس وَسَط الذاكرة المَثقوبة، تلك الذاكرة التي لم تَصمد أمام العَصف فتهتَّكت، وراحت تتسرّب منها الأيام والوُجوه كالماء من غِربال. أشعُر أحيانًا أنّ جزءًا من حياتي لَم يَنْجُ، وأنّ البقاء كان رهينة الصُّدفة، وما هي إلا هِبَة المَوت الغامضة التي اختارت أن تُبقيني على قيد الحياة، لتوقِظَني في كلّ مرَّة على بَعض المَشاهد، التي لا تُفارقني، وتتكرّر في أحلامي ويَقظتي معًا.
انفجاراتٌ تشقّ السماء. أُمٌّ تَعُدّ أسماء أولادها بصَوت مرتجف كي لا يَضيع أحدهم في زَحمة الهروب. جيران يركضون دون أن يَعرفوا أين الطريق وأين الخلاص، رائحةُ الدخان المختلط بتراب البيوت المُنهارة، أصواتُ صراخٍ ومناجات في الظلام، وبين تلك المَشاهد والصوَر الحادّة، تَمتد أيّام كاملة وتكبر الهوّات في الذاكرة، لا أَعِرف كيف عَبَرناها، فكأن الذاكرة لم تَنجُ هي الأخرى، بل تَرَكتنا نبحث عن ملامحنا في ثُقوبها.
ثُقوبُ ذاكرةٍ… تُذكّرنا أنّ النَّجاة ليست سوى شكلٍ آخرَ من الفَقد.
مَن كان مَعنا في تلك الليلة؟
مَن أَمسَك يَدي وَسَط الظلام؟
كيف وصلْنا إلى الضّفة الأخرى من الطريق؟
حتى النَّجاة الجَسديّة نفسها لم تكن خلاصًا، كانت عبورًا هشًّا فوقَ حافّة الموت. وكأَن الذاكرة قرّرت أن تَحميني من الانهيار، فمزّقت صَفَحات كاملة، وتَركتني أسيرةً لثقوبها.
يا لَهَول التجربة وظَلامها، جَعَلتنا نُراجع ذاتنا في كلّ لحظة، في كلّ مرّة نَخرج أحياء من تحت القَصف، ليطلّ علينا الموت الآخر، فكأنّ الموت لم يكن لحظةً واحدة، بل تكرارًا يتسرّب في تفاصيل العَيش اليوميّة:
انتظارٌ طويلٌ أمام طابور ماء،
رصاصةُ غُبن تُسقِط جارًا،
لم يَكُن البقاء حياة، بل اختبارًا متكرّرًا لقدرة الجَسَد على الاحتمال. أيّامنا متشابكة بين الرعب والحذَر، بين الحلم بالسلام واليقظة على الفظائع المستمرة، مع ذلك، لم تكن النّجاة فرديّة، لقد كُنّا ننجو ببعضنا.
في مُشاركة رغيف يتقاسمه عَشرة،
في بيت يَفتح أبوابه لعشرات الغرباء،
في صمت جماعي كي يمرّ هَدير الطائرات دون أن يَسَمع أنيننا،
صارت غزة كلّها جسدًا واحدًا، ذاكرةً واحدة مثقوبة لكنّها حيَة، نَحمِل قِطَعها، وفي تلاقيها نُحاول أن نُعيد رسم صورة ما، حتى لو بَقِيت ناقصة.
رابطٌ خفيٌّ يَجمعنا، لا يكتشفه إلا من عاش الخَوف نفسه، وهو ما يَجعلنا نتَشارك الألم... والإرادة.. والاستمرار.. فَلَم نَحمِل ثُقوبَ الذّاكرة وَحدَها، بل حَمَلنا معها ما يتسرّب منها من رغبةٍ في بالبقاء.
****
في الشَّتات، حَمَلنا هذه الذّاكرة المَثقوبة إلى مدنٍ بعيدة، وفي كلّ لقاء محاولةٌ لترميم ما انقطع، نَروي ما نَعرف، ونُصغي لما يتذكّره الآخرون، ونُكمل الحكاية.
محاولةٌ لأن نُعيد ترتيب شظايا حياتنا، حتى لا تنسَحق تحت وطأة الغياب، وكأنّنا نَخيط قماشًا مهترئًا بخيوط متباينة، محاولةٌ لإعادة الصورة الكاملة رغم ثُقوبها. لكننّا كنّا نُدرك دائمًا أنّ الحكاية لن تكتمل، وأنّ الثقوب ستظلّ أكبر من محاولاتنا. وأنّ الألَم لا يزول، بل يتحول إلى شعور دائم يرافِقُنا في كلّ اختيار، وفي كلّ خطوة نخطوها بعيدًا عن الأرض التي تَرَكناها وراءَنا.
****
وَبَعدَ عامَين، لَم يَعُد سؤالُ النّجاة: "من بَقي حيًّا"؟، بل: "كيف نَعيش نحن الأَحياء"؟
كيفَ نَصنَع معنىً فوق الرّكام؟
كيفَ نَستيقظ كلّ صباحٍ ونحن نَحمل في داخلنا مدنًا مدمّرة؟
فالنَّجاة لم تَعد حدثًا عابرًا، بل عبئًا طويل المدى، ظلّ يلازمنا في كلّ خيار وفي كلّ لحظة، يُعيد تَشكيل حياتنا ومفاهيمنا، وتفكيرنا، حتى الأشياءَ البسيطة تتحوّل إلى إنجازات عَظيمة: كوبُ ماءٍ ساخِن، لحظةُ ضحكٍ مع صديق، أو مجرّد شعور بالأمان ولو للحظة قصيرة.
****
أَكتُبُ اليوم لأقولَ إنّ النّجاة ليست بطولة، بل جَرحٌ مفتوح.
أن نَكتُب هو أن نقاوم مَحو ذاكرتنا،
أن نَضَع علامات على جِدار مَثقوب كي لا يَسقط تمامًا.
وربّما، في النهاية، تَكون النّجاة الحقيقيّة هي القُدرة على تَحويل ثُقوب الذّاكرة إلى نوافذ،
نطلّ منها على ما تبقّى، ونَجِد ما يَلزمنا لنواصل، ونَستَعيد القُدرة على الحبّ، والتّعاطف لنُعيد ثقتنا بالحياة.
فأن نَنجو ليس فقط أن نَعيش. بل أن نَخلق مَعنى جديدًا وسط الدمار، وأن نَحْمل شظايا الذّكريات لنَرسم منها صورًا تَعكس إنسانيّتنا وجرأتنا على الاستمرار، رغم كلّ الثقوب.
شهادة شخصية بعد عامين على حرب الإبادة، لتذكيرنا بأن النجاة ليست حَدَثًا عابرًا، بل رِحلة مستمرّة، تستحق أن تُعاش رَغم كلّ الثقوب.
الصورة: للمصوّر - الصحفي معتز عزايزة.