"أُسْطول الصُّمود العالَميّ": أَثَر "ثَقيل" لـ"حُموَلَة" خَفيفَة

يَعيش قِطاع غَزة مُنذ عام 2007 تَحتَ حِصار شاملٍ فَرَضته إسرائيل برًا وجوًا وبحرًا. تحوّل هذا الحِصار إلى نِظام عِقاب جّماعيّ استهدَف مليونَيّ إنسان، وقيّد حَرَكتهم، وضيّق وصولَهم إلى الغِذاء والدّواء والمواد الأساسيّة. مع مُرور نَحو الثّمانية عَشَر عامًا، أصبَح الحِصار عنوانًا دائمًا لمعاناةٍ إنسانيّة غير مسبوقة، ومادّة لقرارات وإدانات دوليّة متكرّرة.
في مواجَهة هذا الواقِع، ظَهَر البَحر كَمَنفَذ أَخير ومُحاوَلة رمزيّة لِكَسر العُزلة. فمنذ العام 2008، انطَلَقَت العديد من السفن من موانئ مختلِفة، محمّلة بما تيّسر حَمله من المساعَدات الإنسانية إلى أهالي القطاع، وعلى مَتنها نشطاء ومتضامنون من مختلَف الجنسيّات، بينهم برلمانيون وإعلاميون وفنانون وأدباء وأكاديميون، آمِلين بلوغَ شواطئ غزة. بالرغم من اعتراض القوات البحريّة الإسرائيلية لغالبيّة هذه السُفن في عُرض البَحر، فإن هذه المحاوَلات رسّخت حضورًا إنسانيًا، وجماهيريًّا وسياسيًّا في مواجَهة الحصار، ورأَى النّشطاء أنفسهم كَمَن يقوم بالدَّور الّذي تخاذَلت حكوماتُهم عن القِيام به، في ظلّ استمرار الحِصار على قِطاع غزة.
لَم تَكن اعتراضات القوّات البحريّة الإسرائيلية لهذه السُفن سِلميّة في مُعظَم الحالات، ولَعلّ أبرز هذه المحطّات كان اعتراضَ سفينة "مافي مرمرة" التركيّة عام 2010، ما أَسفَر عن مَقتل عشرة متضامنين وجَرح العَشَرات. حُفِر هذا الحَدَث عميقًا في الوَعي العالميّ، وكانت له تَداعيات سياسيّة وقضائيّة على المُستوى الدّولي. لاحقًا، تَتالت المحاوَلات لكَسر الحصار من بَعَثات أخرى، كان أبرزُها أُسطول النّساء عام 2016، وسفينة "العودة" عام 2018، وقد اعتَرَضتها القوات البحرية الإسرائيلية جميعها قَبل وصولها شواطئ غزة.
لا تُقاس قيمَة هذه الأَساطيل بحَجم المساعَدات الّتي تَحمِلها، فهي بطبيعَتها رمزيّة ومَحدودة. إنّما تَكمن أهميَّتها في إعادة تَسليط الضَّوء على أن الحِصار غير شرعيّ، وتَذكير العالَم بأن في غزة هنالك مجتمَع بشريّ له الحقّ في الحياة الكريمة. كلُّ سفينة تُبحر نحو غزة تَحمل رسالةً مزدوجة: إلى الفلسطينيّين بأنّهم ليسوا وحدَهم، وإلى المجتمَع الدولي بأنّ صَمته ليس قدرًا محتومًا.
تَشَكَّل معنىً أعمق لرمزيّة أَساطيل الحريّة ما بعد اندلاع حرب الإبادة على قطاع غزة عام 2023، وإطباق المَجاعة التي بَلَغت مستويات كارثيّة وفقًا لأَحدَث بيانات التّصنيف المتكامل لمراحل الأمن الغذائي (IPC). ومُفارَقة هذه المَأساة أنّ المَجاعة في القِطاع، بِخِلاف كوارث طبيعية أخرى في العالم، هي مَجاعة من صُنع الإنسان؛ إذ يُمنع عمدًا إدخال شاحنات المساعَدات المكدّسة على معابر غزة، في إطار الاستخدام الوحشيّ للتّجويع كأَداة حَرب.
كانت أُولى محاولات الإِبحار إلى غَزة ما بَعد الحَرب في بداية أيار/مايو 2025 من سَفينة "الضمير" التي تعرّضت لاعتداءٍ عَبر طائرات مسيَّرة قُبالة شواطئ مالطا. بَعْدها، أَرسَل تَحالف أسطول الحرّية (Freedom Flotilla Coalition) بعثَتَين: "مادلين" في حزيران/يونيو 2024، ومن ثمّ "حنظلة" في تموز/يوليو 2024. كانت كلتاهما محملتين بالمساعدات الإنسانية، وألعاب الأطفال، والحليب، ورسائل التّضامن. وقد تمّ اعتراضُهما في المياه الدوليّة، واحتجاز النُّشَطاء على متنِهِما حتى تَرحيلهم إلى بلادهم الأُم في أوروبا وأمريكا والعالم العربي.
على إِثر هذه الرّحلات، نَظّم "أسطول الصّمود العالَميّ" (Global Sumud Flotilla) أسطولًا بحريًّا هو الأكبر، مكوّنًا مِن أكثر مِن 50 سفينة، على مَتنِها ما يزيد عن 700 ناشِط مِن جنسيّات مختلفة، وقد تتابَعَ إنطلاقه من خمسة موانئ منذ منتصف أيلول/سبتمبر 2025 متجهًا إلى غزة.
مِنَ الصَّعب توقّع سّيناريوهات رِحلة هذا الأسطول المَهيب ومصير الناشطين على متنه، لكنّ المؤكَّد أنّ إسرائيل أعلنت نيّتها عدمَ السَّماح له، بكل ثمن، بالوصول إلى شواطئ غزة. وروَّجت، في محاولةِ لنَزع الشرعيّة عن النشاط الإنساني، ادعاءات تفيد أنّ النّاشطين متّصلون بِجِهات مُعادية لها، في مسعىً لفَرض سردّية موازيّة تُجرّم العَمَل الإِنسانيّ، وتُصوّر المتضامِنين كَتَهديد أَمنيّ.
على الرّغم من تَصريحات النّشطاء قُبيلَ إِبحارِهِم عن أَهداف بَعَثاتهم الإنسانيّة السلميّة، وتَوثيق مَسار رِحلة الإِبحار بالبثّ المباشِر في مسعىً لحماية حياة النّشطاء وأمنهم، فإنّهم يتعرّضون فَور اعتراض السّفن واقتيادهم إلى جَلسات الاستماع أمام موظَّفي سُلطة الهِجرة للمساءَلة حَول غايَتهم من الإبحار إلى القِطاع، والمَسار الذي اتّخَذَته السّفينة، وللمفارَقَة، تتمّ مساءَلتهم عن إدراكِهِم "عَدَمَ قانونيّة" إبحارهم لكونهم حاوَلوا خَرق الحِصار البحريّ المَفروض على قطاع غزة.
لكنّ القِراءة القانونيّة الدوليّة مختلِفة. أصدَرَت مَحكمة العَدل الدولية في كانون الثاني/يناير 2024 قرارًا يُلزم إسرائيل بالسماح بدخول المساعَدات الإنسانية بشكل فوريّ وآمن. كما أنّ اتفاقيات جنيف ودليل سان ريمو يَحظران تَجويع المدنيّين أو استخدام المساعَدات كأداة ضَغط عسكرية. بمَعنى آخر: اعتراض السّفن الإنسانيّة ليس فَقَط ممارسةً سياسية، بل انتهاك مباشر للقانون الدولي الإنساني.
أما على المستوى القانونيّ الإسرائيلي الداخليّ، فثمَّة مفارَقة تَكشف بوضوح محاوَلة الهُروب من سؤال الشّرعية: إذ إن إسرائيل لا تُناقِش أَمام العالَم قانونيّة الحصار بحدّ ذاته، بل تتعامل مع النشطاء وِفق "قانون الدخول إلى إسرائيل لعام 1952"، حيث تُصنّفهم كمتسللين غير شرعيّين. وبِموجَب هذا التّصنيف، يُحتجز المتطوّعون عند اعتراض السّفن، ويُعرضون أمام قاضٍ لبحث شرعيّة إبقائهم حتى التّرحيل، مع إمكانية "التّرحيل الطّوعي" خلال 72 ساعة إذا تخلّوا عن حقّهم في المُثول أَمام القضاء.
بهذا الشَّكل، تُحوّل إسرائيل قضيّة ذات أَبعاد إنسانية وقانونية دولية إلى مسأَلة "هِجرة غير شرعيّة"، وكأن هؤلاء المتضامنين يُحاولون دخول أَراضيها خِلسَة، ولَيسوا في مهمة إنسانيّة تستند إلى قواعد القانون الدولي. تَتجاهل هذه الاستراتيجية القانونية الخَوضَ في سُؤال قانونيّة الحصار، وتَفرِض واقعًا موازيًا يَجعل القانون الدوليّ غائبًا عن المشهد.
النتيجةُ أنّ كلّ سفينةٍ تُعترض، وكلّ متضامنٍ يُرحَّل، يَكْشف عُمق التّناقُض بين القانون الدولي الإنساني من جهة، والمَنظومة القانونيّة الإسرائيلية التي تُشرعِن الحِصار مِن جهةٍ أُخرى. هذه المفارَقة بالذّات هي ما يَجعل "أساطيل الحريّة" تتجاوز كَونها مجرّد محاولات لإيصال مساعَدات، لتصبح اختبارًا مستمرًا لمدى التزام العالم بالقانون الدولي وحقوق المدنيّين في النزاعات المسلَّحَة.
