غَزَّة: الطُّفولَة "العالِقَة" تَحتَ ثِقَل الرُّكام

هُناك لَحَظات في التاريخ تُكتب بالحِبر، وأخرى تُحفر في الوجدان. في غزة، لا تُقاس الحُروب بِعدد الأيّام ولا بِعدد الصواريخ؛ بل بِعدد الطُّفولات التي تَكسّرت قبل أَوانها. بَعد عامين على الحَرب الأَخيرة المستمرّة، لا تَزال الطفولة تختبئ تَحت الرُّكام، تَبحث عن مأْوى بين الجُدران المهدّمة والذّكريات الثَّقيلة. فالأمْر لم يَعد مجرّد بيوت تهدّمت أو مَدارس دُمّرت، بل أَرواح صغيرة تُحاول أن تتعلّم كيف تَعيش في عالَم لم يَعد يعرف الأَمان.

لا يَبدأ الطفلُ هنا من نُقطة الطُّفولة الطبيعية التي نَعرفها، بل من واقعٍ مشوَّش تَختلط فيه الحَياة بالموت. حين يَسقط صاروخ على مَنزل الجيران، يتعلّم أنّ البَيت لَيس بالضَّرورة مكانًا آمنًا. حين تَرتَجف يَدُ الأم وهي تَحضنه، يَفهم أن الكبار أيضًا يمكن أنْ يَنهاروا. في لَحظة واحدة، يتصدّع الأَمان الداخلي، ويتسلّل الخوف إلى نَسيج "الأَنا" قَبل أن تَكتمل ملامُحها الأُولى.

إنّ السنوات الأولى هي أَساس بِناء صورة الطّفل عن نَفسه وعن العالَم. يَحتاج إلى "حُضن نفْسي" مستقِر يَحميه من تَهديدات الخارج. لكن في غزة، تَنهار هذه المعادَلة: الأُم خائفة، والأَب عاجِز، والبيت قد ينهار في أيّ لحظة. هكذا يتشكَّل ما يُعرف بانهيار الأَمان الأَساسي؛ شعورٌ عَميق بأنّ العالَم غير متوقَّع، ولا يُمكن الوثوق به.

لا تَختفي الأَحداث الصّادمة التي يَعيشُها الطفل. إنّها تظلّ تَسكن اللاوعي: أصوات الانفجارات، صوَر الأجساد، وحتى الصّمت الذي يعقُب القَصف. تتحوّل هذه العناصر كلّها إلى ذاكرة جسدية ونفسيّة تُبقي الخوف حاضرًا في كلّ لحظة. إنه ليس مجرّد شُعور عابر، بل بُنية داخليّة تَترسخ بِعمق، فيما نُطلق عليه "الصّدمة المركَّبة".

قد تَظهر هذه الصّدمة بوجوه مختَلفة: طفل لا ينام ليلًا، أو يَلتَصق بأُمه في المدرسة، أو يَثور بعنف مفاجئ على أصدقائه، أو يَنسحب في صمتٍ كامل كأنّه يعيش في عالم آخر. وفي كثير من الحالات، يَبدأ الطفل في استخدام آليات دفاعٍ نفسيّة غير ناضِجة ليحمي نفسَه من الألم الذي يَفوق قدرتَه على الاستيعاب. قد نَرى الإنكار، حين يتصرّف كأنّ شيئًا لم يَحدث، أو الانقسام حينَ يرى العالَم بلَونين فقط: خير مُطْلق وشرّ مُطْلق. وقد يلجأ إلى الإسقاط، فَيَنسب خوفَه الداخلي إلى الآخرين، كأنّه يتخلّص منه. هذه الدفاعات تَحميه مؤقتًا، لكنّها قد تَمنَع نموّه النفسيّ السليم على المَدى البَعيد.

يُحاوِل الطفل أحيانًا التّماهي اللاشُعوري مَع المعتَدي لِيَشعر بالقوّة؛ فيتقمّص صورة "المهاجِم" ويُصبح أكثرَ قسوة مع غيره أو مع نفْسه. هُنا تتحوّل القَسوة إلى وسيلة بَقاء. وإذا لم يُحتوَ هذا التماهي في وقتٍ مبكّر، فقد يَظهر لاحقًا كسلوك عدواني أو كصعوبة في بناء علاقات آمِنة وثابتة.

لا تَقتَصر الصَّدمة على المَشاعر، بل تَمتدّ إلى الوَظائف المعرفيّة والتعليميّة. يَجِد الطفل الذي يَعيش في خوف دائم صعوبةً في التّركيز والانتباه، فتتأثّر قدرتَه على التعلّم. يتحوّل اللعب، الذي يُفترض أن يكون مختبَر الخَيال والتّجربة، إلى نَشاط مَحدود أو غائِب. حين يَفقد الطفل قدرتَه على اللعب بحريّة، يتعطّل جزء أساسيّ من نموّ "الأَنا" وقُدرتها على التنظيم والتخيُّل. حتى الهوية نفسها تتشكّل تَحت ضَغط التّهديد المستمر، فينشأ الطفل وهو يحمل إحساسًا مزمنًا بأنه في خطر، وأن العالم غير جدير بالثقة.

لكنّ المسأَلة لا تَقف عند حدود الفَرد. حين يَعيش جيلٌ كاملٌ تحت وَطأة الصّدمة، تتحوّل إلى صَدمة جَمْعية. يَحمل اللاوعي الجمعيّ للمدينة ذاكرةَ الفَقد، وتنتَقِل نَبرةَ الأمّهات المَكسورة إلى الأَبناء، جيلاً بَعد جيل. إنّها عمليّة انتقال خَفِي للألم، حيث يُورَّث القَلَق كإرث ثقيل يَسكن الحكايات الليليّة، والأغاني الشعبيّة، وحتى لغةَ الجَسَد في اللقاءات اليوميّة. ومع مُرور الوَقت، قد تُصبح هذه الصّدمة جزءًا من الهويّة الجماعيّة، ما لم تُعالَج بطريقة تتيح تحويل الأَلَم إلى مَعنى.

رغم هذا كلّه، تَظلّ هناك إشاراتُ مُقاوَمَة: ضحكة طفلٍ وَسَط الرّكام، شمسٌ صفراء تُرسم على دَفتر ممزَّق، أو كُرة تُركل بين خيم النُّزوح. هذه التّفاصيل الصّغيرة هي في عِلم النّفس آلياتُ بَقاء، محاولات لترميم النّفس الممزَّقة. ليسَ اللعب والرّسم والفنّ مُجرد هِوايات، بل لُغات بَديلة يَستطيع الطّفل من خلالها أن يبوح بما يَعجز عن قولِه بالكلمات.

مع ذلك، لا يَكفي الصُّمود وحدَه. يَحتاج الأطفال إلى بالِغين ثابِتين، قادِرين على أن يَكونوا "حاويات" لِمشاعر الخَوف والقَلَق. يَحتاجون إلى مدارس تقدّم الدعم النفسي قَبل المناهج، وإلى مجتمَع يَعي أن إعادَة بناء البيوت لن تُجدي إذا لم يُعَد بناء الأمان الداخلي. فإعادة تَرميم الطُّفولة لَيست ترفًا، بل شَرط لبقاء مجتمع قادرٍ على الحياة.

بَعد عامَين من الحَرب، لا يُمكن أن نَرى أطفالَ غزة كضحايا فَقط؛ إنّهم شُهود على الأَلم، لكنّهم أيضًا بذور للمستقبل. كلّ جَرح لا يلتئم اليوم قد يتحوّل غدًا إلى صمت قاتل أو غَضَب منفَجر أو فقدان ثقة بالحياة. إنقاذ الطفولة هنا ليس خيارًا سياسيًا، بل ضَرورة نفسية لحماية أَجيال بأكملها من إعادَة إنتاج الفَقد والخوف.

فالحرب قد تُحاصِر الجُدران، لكنّها لا تَستطيع أن تُطفئ حاجَة الطّفل للحبّ، ولا قُدرته على الحُلم. وبَين الرّكام، تَظلّ هناك بذرة تَبحث عن شَمس، وضِحكة تَبحث عن فُسحة أمان، وطفل يُحاول أن يتذكّر… كيف يكون طفلًا، حتى وَسَط الحَرب.


الصورة: للزميلة المصوّرة - الصحفية دعاء الباز.

عبد الله حاتم ريّان

أخصائي نَفسي ذو خبرة في التّشخيص والعلاج النفسي للأطفال والمراهقين وإرشاد الأهالي، مُدير وحدة علاجيّة لأطفال على طيف التوحّد، ومن مؤسسي جمعية "تاج الحياة لتطوير الصحة والتعليم والرفاه الاجتماعي في المجتمع العربي". حاصل على درجة الماجستير في علم النفس- تخصص علم نفس تربوي وعلم نفس نمائي.

فاطمة طة
كل كلمة كَتبتها كانت صوتاً لكل طفل في غَزة ، حسيت كُل كلمة كأنها طالعة من وجع الناس هناك ، رسالة انسانية جميلة جدا ، كل الاحترام والتقدير.
الأربعاء 1 تشرين الأول 2025
أميمة
كلمات ما كانت حروف عادية كانت وجع ودمعة وصوت لكل طفل في غزة💔الله المستعان
الأربعاء 1 تشرين الأول 2025
ايه
شكرا جزيلا على هذا المقال الي شاف بعمق اكبر وبشكل محدد معاناة أطفال غزة
الخميس 2 تشرين الأول 2025
دنيا برودي
الموضوع هام وحيوي، طبعا لمسني في العمق، وسيرافقنا عالأقل الخمسون سنة القادمة. الطرح رائع، سلس ومعبر جداً مع الصورة، كل الشكر أ خ ريّان، تحياتي الحارة
السبت 4 تشرين الأول 2025
Sham
مقال مؤثر جدًا وبعكس حجم المأساة التي يعيشها الأطفال في غزة. كلماتك تلامس الأعماق، وتصور بصدق تام معاناتهم اليومية. الألم الذي يعيشونه ليس فقط في الجسد، بل في الروح والذاكرة التي تظل محفورة في أعماقهم.
السبت 4 تشرين الأول 2025
امينة
مقال مؤثر جدًا، لمس القلب ولمس أيضاً الجانب المهم اللي بنغفل عنه غالباً وهو الأثر النفسي العميق على أطفال غزة. أسلوبك واضح وصادق، وطريقة الطرح خلت التحليل واقعي ومقنع. شكراً الك على تسليط الضوء على هالموضوع الإنساني المهم 👏🌸
السبت 4 تشرين الأول 2025
Mhmd
يعطيك العافيه ابو ورد عنجد كلام في الصميم ربنا يفرجها ويهونها عالعباد
الأحد 5 تشرين الأول 2025
سحر
عبد الله، مقالك وجّع القلب ولمس الروح بكل كلمة 💔 كتبت عن وجع أطفال غزة بطريقة مليانة صدق ووجدان، وكأنك نقلت أنفاسهم من تحت الركام للحروف. كل سطر في المقال بيحكي وجع، بس كمان بيحكي صمود وأمل صغير وسط كل الخراب. شكراً لأنك منحت الطفولة الغزّية صوت يسمعه العالم، مش كرقم، بل كحياة كاملة تستحق أن تُعاش 🕊
الأحد 5 تشرين الأول 2025
رأيك يهمنا