هِجرةَ العُقول الفِلِسطينيّة في الدّاخل: قَبْلَ أَن يَحْزِمَ المَزيد مِن الشّباب حَقائِبَهُم

تَمتلك الكوادر الشابّة في بلادنا من المهنيّة، والمَعرفة، والطُّموح ما يؤهّلها للنجاح في أيّ مكان. فإن لم نوفّر لها بيئة حاضِنَة في الدّاخل، فستبحَث عنها في الخارج. هكذا، تبدأ رحلة هِجرة العقول – لا كخَيار عابر، بل كضرورة تَفرضها الظروف. بهذا، نخسَر فرصة ثمينة لبناء مستقبل أفضل لمجتمعنا.

أُتابع مِن خلال عملي كمتخصّصة في مجال إدارة الموارد البشرية، عن كثب، ما يعيشه شباب الدّاخل الفلسطيني – ليس فقط من حيث الأرقام والإحصاءات، بل من خلال قصص يوميّة مؤلمة ومتكررة. شباب يُقصَون من فرص العمل رغم كفاءاتهم، يتعرّضون لتمييز صريح أو مبطن، يُجبرون على مغادرة بيئات عمل غير آمنة، أو يُحرمون من التقدّم فقط لأنهم عرب.

في ظلّ الحرب المستمرة، ومع تفاقم العنف والجريمة، يواجه شباب الدّاخل الفلسطيني معضلة وجوديّة تتجاوز الأمن اليومي إلى سؤال أعمق:
"هل لي مستقبلٌ هنا؟".

جيلٌ جديد يحمل الشهادات، يُتقن اللغات، مبدع في التكنولوجيا، وطموح في رؤيته – لكنه يقف اليوم عند مفترَق طُرق. من جهة، رغبةٌ جامحة في النمو والتأثير وبناء الذات، ومن جهة أخرى، واقع يُعيد إنتاج التمييز ويُغلق الأبواب أمام الأمل.

بدأت هجرة العقول التي كانت ظاهرة خفيّة لسنوات، في الأشهر الأخيرة، تتحوّل إلى موجة تهدّد النسيج المهنيّ والمعرفيّ لمجتمعنا. كلّ واحد فينا تقريبًا يعرف شابًّا أو شابة – وربما أكثر – ممن قرروا المغادَرة: طبيبٌ أَنهى تخصصه وهاجر إلى كندا، مهندسةٌ موهوبة وَجَدت فرصة في برلين، مطوّرُ برمجيّات تلقّى عرضًا مغريًا في دبي، أو باحث أكاديمي شعر أن الأبواب أُغلقت في وجهه هنا.
ليست هذه حالات فردية… بل مؤشر على شعور جماعي بأن الدّاخل لم يَعُد يتّسع للطموح.

وفقًا للمركز الإسرائيلي للديمقراطية، في بداية الحرب، قال 59% من عرب الداخل فقط (مقابل 80% من اليهود) إنّهم يفضّلون البقاء في البلاد – وهو أدنى رقم تم تسجيله خلال العقد الأخير. ورغم أن النسبة ارتفعت إلى 70% في أكتوبر 2024 (وهي نسبة اليهود نفسها)، فإنها لا تزال منخفضة جدًّا مقارنةً بفترات سابقة، حتى في أوقات كانت متوترة أمنيًّا.

من زاويتي المهنية، يمكنني القول إن سوق العمل في الداخل لا يزال بعيدًا كلّ البعد عن الإنصاف. يواجه شبابنا تحدّيات مضاعَفة في القبول، والتّرقية، والأجور، وحتى في بيئة العمل نفسها. ومع كلّ حرب أو تصعيد سياسي، تتعمّق هذه الفجوة.
في العامين الأخيرين، تلقّينا شهادات من عشرات الشباب والشابات ممن واجهوا العنصريّة في مكان العمل. لكنّ الأصعب من العنصريّة كان الصّمت، وغياب المواجهة، وتزايَدَ الشُعور بأن لا أمل في التغيير.

غِياب الأُفُق المِهنيّ

تُشير دراسة أُجريت في "المعهد للهجرة والاندماج الاجتماعي" في المركز الأكاديمي روبين، إلى أن حاملي التّعليم العالي في المجتمع العربي هم الأكثر ميلاً للتّفكير في الهجرة.
34%  من حاملي الشهادات الأكاديمية يرغبون في الهجرة، مقابل 23% فقط يريدون البقاء.
أمّا أسباب الرّغبة في الهجرة فهي أَمنية واقتصادية بالأساس:
46%  من المشاركين العرب أشاروا إلى الحالة الأَمنية كسبب رئيس، و40% أشاروا إلى غياب فرص النمو الاقتصادي.

الواقع أن الأفق المهني في الداخل يبدو مسدودًا: لا دعم حكوميًّا حقيقيًّا، ضعف في المبادرات العربية الخاصة، وتراجُع في الاستثمار في المشاريع الرياديّة داخل بلداتنا. حين يَنظر الشاب أو الشابة إلى المستقبل، يرى سقفًا منخفضًا يصعب كَسْره.

مع هجرة العقول، لا نخسر فقط سنوات من التعليم – بل نخسر معرفةً ثقافية، ولغوية، وإنسانية لا يمكن تعويضها.
كخبيرة في الموارد البشرية، أعلم كَم هو صعب إيجاد أشخاص يَجمعون بين المهارة والفَهم العميق للسياق المحلي. هؤلاء الشباب هم رأس المال الحقيقيّ لمجتمعنا.

نحن لا نخسر مجرّد فرد، بل نخسر تجربة كاملة، وننقله من خانة التأثير إلى خانة الغياب. والأسوأ من ذلك، أن من يَبقى هنا يتأقلم مع واقع الفقد، ويشعر أن النجاح لم يَعُد ممكنًا.

فُرصة يَجب أن لا نضيّعها: دَور الشركات والمؤسسات العربية

في خِضَم هذا الواقع القاسي، تبرُز فرصة أمام القطاع العربي: أن يتحوّل من متفرج على هجرة العقول إلى حاضنة حقيقيّة لها.

يَحمل الكثير من هذه العقول مهارات نادرة – من الذكاء الاصطناعي إلى الطبّ الدقيق، من القيادة الاجتماعية إلى تَطوير الأعمال. هذه ليست مجرّد شهادات – بل أدوات تغيير حقيقية إذا أُتيحت لها الفرصة.

فبينما تَرفض بعض الشركات الإسرائيلية توظيف شبابنا أو تستغل الظروف للضّغط عليهم، يمكن للمؤسسات العربية – التجارية، والمجتمعية، والتكنولوجية، وحتى الأكاديمية – أن تقدّم بديلاً مهنيًّا ومعنويًّا حقيقيًّا.

نحن نتحدّث عن:

- شركات ناشئة عربية تستوعب خريجي الهايتك والمهندسين وتَمنحهم الفرصة.

- منظمات مجتمع مدنيّ تستقطب الكفاءات للعمل في مجالات التأثير والتغيير.

- عيادات، ومراكز بحث، ومدارس، ومبادرات ثقافية تَحتاج إلى عقول وعزائم محلية.

- رجال ونساء أعمال عرب يمكنهم الاستثمار في الطاقات الشبابيّة وتوفير بيئة عمل عادلة.

لا يحتاج هذا الجيل إلى وظيفة فقط، بل إلى شعور بالجدوى والانتماء. أن ينجح دون أن يتنازل عن هويّته. أن يُسمَع صوته دون خوف. أن يُحتفى بتميّزه، لا أن يُطلب منه "التّواضع" باسم الاندماج.

إذا أردنا فعلاً حماية مستقبلنا، علينا أن نبدأ من هنا: من بناء أرضيّة صلبة يَزرع فيها شبابنا جذورهم، لا أن يَبحثوا عن وطن بديل.

لا يتطلّب الأمر معجزة… بل رؤية، وقرارًا، والتزامًا.

وإذا لم نستثمر نحن في شبابنا، فلا لَوم عليهم إذا حَمَلوا حقائبهم وَرَحَلوا.

سمر قسيم مخول

محامية ومستشارة في بناء استراتيجيات إدارة الموارد البشريّة للشركات.

سهيل
كل الاحترام حتى الشركات العربية لا تجد فرص كافية للنجاح
الجمعة 1 آب 2025
مي عبود- الناصرة
مقالك محفّز للتفكير، وضروري في هاذا الوقت، فكرك وطرحك بيرفع الراس 👏👏
السبت 2 آب 2025
مي عبود
مقالك محفّز وضروري جدا بهالوقت، اخسنتِ 👏
السبت 2 آب 2025
رأيك يهمنا