لَمْ ولَنْ يَكْسِروا إِرادَتَنا

عامان مرّا على بدء جريمة الحرب والإبادة الجماعية التي شنَّتها إسرائيل ضد شَعبنا الفلسطينيّ في قطاع غزة، وهي حَربٌ وُصِفَت بالأَكثر وحشيّة في التاريخ المعاصر، لَيس فقط لِعَدَد ضحاياها من المدنيّين، بل لأنّها استهدَفت جَوهر الحياة الفلسطينية، مِنَ البيوت والمستشفيات والمدارس والمخيَّمات، إلى الذاكرة الجَمعيّة لشَعبنا الفلسطيني وحقّه الطبيعيّ في البَقاء. لقد سَعَت إسرائيل إلى تَحويل قطاع غزة إلى مَقبَرَة جَماعيّة، لكنّها لم تُفلح في تَحقيق مُرادها، إذ واجَهَ شَعبنا هذا الجَحيم بِصمود أُسطوريّ أكَّد للعالَم أنّ الفلسطيني لا يَنكسر، وأنّ إرادَتَه الوطنية راسِخة كالجَبَل مَهما اشتدّت العواصف.
لَقَد كَشَفت هذه الحَرب العدوانيّة حقيقةَ المَشروع الاستعماري الإسرائيليّ بوضوح لا لُبسَ فيه، فَلَم يعد الاحتلال قادرًا على التستّر وراء دعايَته التقليديّة أو خِطابَ "الدّفاع عن النفس"، بل ظَهَر أمامَ العالَم كقوّة مُعتدية فاشية تُمارِس أبشَع أشكال التطهير العِرقي والإبادَة الجَماعيّة، وبالمقابل، تَحَوّلت القضية الفلسطينية إلى قضيّة ضَمير عالَمي، فخلال العامَين المُنصَرِمَين، صَدَرت قَرارات دوليّة غَير مَسبوقة، أبرَزُها قَرار محكمة العدل الدولية الذي أكَّد وُجود شُبهة جديّة بارتكاب إسرائيل جَريمة الإبادة الجَماعيّة، وهو ما وَضَعها في خانة الدول المارِقَة على القانون الدولي، كما شَهِدنا تناميًا في مَوجَة الاعترافات بدَولة فلسطين، التي شَمِلَت إسبانيا وإيرلندا والنرويج، وصولًا إلى مَواقف أوروبية وأمميّة تتنامى يومًا بَعد يوم. وفي الشّارع العالَمِي، خَرَجَت الملايين في مظاهرات غير مَسبوقة دفاعًا عن حقّ الفلسطينيين، لتتحوَّل القضية الفلسطينية مِن قضيّة سياسية إلى أَيقونة إنسانية تعانِق شعوبَ الأرض كلّها.
في مواجَهَة هذه التحوّلات، لَم تَقِف القيادة الفِلسطينية مَكتوفَة الأَيدي، فقد تحرَّكت منظمة التحرير الفلسطينية، باعتبارها المُمثّل الشّرعي والوحيد لشعبنا، في جَميع المَحافل السياسيّة والدبلوماسية والقانونية، فكانَت المَعركة في أروقة الأُمم المتّحدة، وفي مَحكمة الجِنايات الدولية، وعلى طاولات الحِوار مع العواصم المؤثرة، وفي هذه الميادين كلّها، حَمَلَت القيادة همَّ شعبها وَرَفَعت صَوته، مؤكّدة أن الحقّ الفلسطيني غير قابل للمساوَمة، وأنّ الاستقلال الوطني هو الهَدَف الذي لا بَديلَ عنه، وفي الوَقت ذاته، جدَّدت منظمة التّحرير التزامها بوحدة الشعب الفلسطيني أَينَما وُجِد، متمسّكَة بالبرنامج الوطني الجامع الذي يَضمن لشعبنا حقّ العودة وتَقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلّة وعاصمتها القُدس.
اليومَ، ونَحن على أَعتاب انعقاد الجمعية العامَة للأمم المتّحدة، نَقِف أَمام استحقاق سياسيّ محوريّ، ولا يَنبغي لهذا الاجتماع أن يكون تكرارًا لخطابات الشجب والإدانة، بل مَحطة لِوَضع آلياتٍ عمليّة لحماية الشعب الفلسطيني وحُقوقه الوطنيّة، وإننا نتطلع إلى قرارات واضحة تدين الإبادة الجَماعيّة، وتُرسّخ الاعتراف بدولة فلسطين، وتُلزِم المجتمع الدولي بمحاسبة إسرائيل على جرائمها، وتدفع باتجاه توفير الحِماية الدوليّة لشعبنا تحت الاحتلال، كما نَأمل أن يشكّل هذا الاجتماع خُطوَة مُتقدِّمة نَحو وَضع القضية الفلسطينية في قَلب النّقاش الدَولي حَول مستَقبَل النّظام العالمي.
إنّ ما يَزيد من أهميّة هذه اللحظة التاريخيّة أنّ العالَم يَشهَد تحوّلات كبرى، فالتَّوازنات الدولية تتغيّر بسرعة، مَع صعود قُوى جديدة كالصين وروسيا ومجموعة "بريكس"، وتَراجُع هيمنة القطب الواحد، وفي هذا السّياق، باتت القضية الفلسطينية اختبارًا جديًّا لمدى التزام المجتمع الدولي بمبادئ العدالة وحقوق الإنسان، فالعالَم لا يُمكن أن يَبني نظامًا أكثر توازنًا وإنصافًا بينما يغضّ الطَّرف عن أَطول احتلال في التاريخ الحديث، وعَن جرائم إبادة موثَّقة بالصوت والصورة، ومِن هنا، لم تَعُد القضية الفلسطينية مجرّد قضية تخصّ شعبها وحده، بل قضيّة تَضَع الإنسانية جَمعاء أَمام مسؤوليّاتها الأخلاقية والسياسية.
إنّ استمرارَ الاحتلال وسِياساته الاستيطانية الاستعمارية والعنصريّة يُشكّل تَهديدًا ليسَ للفلسطينيين فَقَط، بل للاستقرار في المَنطقة والعالم، فَبِدون حلّ عادلٍ وشامل للقضية الفلسطينية، سَتَبقى المنطقة عُرضَة للانفجار، وَسَتَبقى نارُ الصّراع مشتَعِلة، مِن هُنا، فإنّ تَحقيق السّلام العادل لَيس هِبَةً ولا تنازلًا، بل مَصلحة عالميّة كبرى، وعلى المجتَمع الدولي أن يُدرك أن تَمكين شَعبنا الفلسطيني من إقامة دولته المستقلّة وذات السيادة الوطنية وعاصمتها القدس الشرقية هو الطَريق الوَحيد لفَتح أُفُق جديد للأمن والاستقرار الإقليمي والدولي.
إنّنا وَبَعد عامين على حَرب الإبادَة الجَماعيّة، نؤكّد أن ّدماء الشهداء لَن تَضيع هدرًا، وأنّ صُمود الأسرى والجرحى وأبناء شعبنا في الداخل والشتات سَيَبقى زادَنا لمواصلة النضال الوطني، ولقد أَثبتَ الفلسطيني أنّه قادر على تَحويل المِحنَة إلى مِنحَة، والكارثة إلى فُرصة، وأنّه رغم الألم والجِراح قادر على شقّ الطريق نحو الحرية والاستقلال. رسالَتُنا إلى العالم واضحة: فلسطين باقية، وإرادَة شَعبِها لَن تَنكَسر، والعدالة لا بدّ أن تَنتصر مهما طالَ الزّمن، وإنّ المرحلة المُقبِلة يجب أن تكون بداية جديدة لمسار سياسي يقود إلى إنهاء الاحتلال وتَجسيد الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود الرابع من حزيران 1967 وعاصمتها القدس الشرقيّة، وهذه بطبيعة الحال ليست مجرّد رؤية أو طموح، بل حقّ تاريخي وقانوني وإنساني لا يَسقُط بالتّقادُم.

د. أحمد مجدلاني
عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، الأمين العام لجبهة النضال الشعبي الفلسطيني.