إنسانيّة الفلسطينيّ الراديكاليّة

"نَحْنُ نُباد" – هذه الصّرخة الفائضة عن قُدرة أيّ لغةٍ على حملِها، تنفجِر دون نهاية في قلب غزة المَذبوح منذ عامين. لا يَزال هذا التّوصيف الذي لا مجازَ فيه دقيقًا كسكّين وما زال يُصيب الروح والمخيّلة في مقتَل. مَشاهد وكلمات وأصوات وصُموتات لا تفتأ تُفجِعُنا وتميتُنا بأَكثر من طريقة. لكنّ هذا النداء المُفرد بصيغة الجَمع، هذا الفعل الاستغاثيّ المضارِع المبني للمجهول، هو إِعلان صادِم ليس عن استمرار إعدام الحَياة الفلسطينيّة فحسب، وإنما أيضًا عن استمرار قتل الحقيقة والشّهود. "نَحْنُ" فلسطينيّة تتكلّم، في لحظةِ محوِها، باسمها وباسم البشريّة جمعاء: السّماح بتحوّل القَتل الجماعيّ إلى روتين يمهّد لتمدّد الموت خارج الحياة الفلسطينيّة إلى قلب المشروع الإنسانيّ نفسه، ويرسم أفقًا مرعبًا للتجربة الإنسانيّة: تَطبيع الإبادة. صمتٌ هادر يُشرْعِن التّجويع والتّهجير، ويَطمس أسماء الضحايا، ويغيّب أسئلة الحرّية والعدالة والكرامة.  

بَعد عامَين، لا تَزال المذبحة مستمّرة. لم تَعد فقط قصفًا يجتثّ الحياة في لحظة، بل صارت زمنًا رماديًّا يتسرّب إلى تفاصيلها الحَميمة، ويقضِمها ببطء كما يقضِم خريفٌ لا ينتهي كلَّ الفصول، ويُحوّل الأحياء إلى جثث تمشي والحياة "العاديّة" إلى عَمل شاق ومُغرَق بمشاعر الذنْب. وهذا ما يُؤلمنا أيضًا نحن الشّهود على كلّ هذا الموت والشقاء والخراب: حياتنا "العاديّة" المستمرّة رغم المذبَحة المستمرّة. أن نرغب، أن نَأكل، أن نحِب، بينما يباد الآخرون الذين هُم نَحنُ. أصبحت الرّغبة، وإن كانت شكلًا من أشكال المقاومة، نُدبَةً غائرة وجَرحًا نفسيًّا وأخلاقيًّا لا يلتئم.

بَعد عامين اتّسع الجَرح، وازداد السؤال إلحاحًا: كيف يمكِن للذات الفلسطينية أن تُلملم أشلاءَها وأن تَبقى حيّة ومتماسكة وهي تُقيم بين موتٍ وموت، بين فقدان وفقدان، بين نزوحٍ ونزوح؟ 

بعد عامين، بات واضحًا أنّ سؤال الطفولة في غزّة هو سؤال العالَم كلّه: إذا ماتَت الطفولة هناك، فما مصير الإنسانيّة كلّها؟ 

بعد عامَين، غادر "المُستحيل الفلسطينيّ" تُخوم الاستعارة، وانغرَسَ في الأرض كشرطِ وجودٍ شَديد الواقعيّة: أن تبقى حيًّا وأنت محكوم بالموت، أن تتمسّك بالمعنى في زمن لا يعترف إلا بغيابك، أن تبتكر لغةً جديدة وسط ركام اللغة القديمة عن الحقّ والحقيقة التي انهارت مع الأجساد والبيوت. صار "المُستحيل الفلسطينيّ" مشروعَ حياة: حياة هشّة، دامية، محاصَرة بسياسات الإماتة والإفناء، لكنّها مُصِرّة على أن تَكتُبَ نفَسها ضدّ المَحو، وعلى أن تَنحَت في جِدار الصّمت صرخَتَها الأخيرة: "نَحنُ نُباد". 

صَرخة تُهيب بِنا أن نَرفض أَن نكون شهودًا متواطئين في تَطبيع ما لا يُمكن تَطبيعُه، بل شهودًا مؤتمَنين على إنسانيّتنا وإنسانيّة من تُستباح إنسانيّتهم، أن نُعيد للطفولة أسماءَها، وللحياة حقّها الأساسيّ في الحياة.  أن نحزن، ونغضب، ونتذكّر ونتكلّم ونَكتب. ليس بحثًا عن عزاء، وإنما خَلخَلةً لخطاب الخُواء والموت المهيمِن، وترميمًا للنظام الرمزيّ المؤسّس لذواتنا وعلاقتنا مع العالم. 

الفلسطينيّ، في استحالته، ومن مكان إقامَته في "منطقة اللا-وجود" الاستعماريّة القاحلة، يمدّ للعالَم، وقاتِلِهِ، خيطًا أخيرًا من إنسانيّة، كأنّه آخر من يذكّره أنّه قادر على أن يكون إنسانًا. وهذا هو فِعْله الإنسانيّ الأكثر راديكاليّةً وحياةً.

د. مصطفى قصقصي

اختصاصيّ نفسيّ عياديّ، وشاعر.

رأيك يهمنا