سُجون إِسرائيليّة لا تَدخُلُها الشَّمْس: شَهادَة مُحامِيَة

"أَنتِ أوّل إِنسان أَراه مُنذ يَوم اعتِقالي"، هذا ما قالَه لي بانفِعال وحُزن "م.ع" ابن التّاسِعَة عَشرَة، المعتَقَل في سِجن "ركيفت" في مدينة الرّملة. مَضى على اعتِقاله قُرابَة عامٍ كامل.
تُلخِّص هذه الجُملة ما يمرّ به الأَسرى الغزّيون في مُعتَقَلات إسرائيل وسُجونها، العَسكريّة وتلك التّابِعة لمَصلَحة السجون، الّذين تمّ اعتِقال الغالبيّة العُظمى منهم وِفق "قانون المقاتِل غَير الشَّرعي"، وهو نَوع من أنواع الاعتِقال الإداري التعسّفي. يَتم اختطافُهم بشكل يَنتهك الاتفاقيات الدولية كاتفاقية جنيف الرابعة لحماية المدنيّين في حالات الحَرب. يوجَد اليوم قُرابة ثلاثة آلاف معتقل -وتم إطلاق سراح الآلاف- ممّن اعتُقلوا وِفق هذا القانون بَينهم نِساء وقاصِرون. ينفي إطلاقُ سراح الآلاف بحدّ ذاته ادّعاءات إسرائيل نَفسها، ويؤكّد كونهم مدنيّين. بَعد الاعتقال، يُثبّت القاضي القرار من خِلال مشاهدَة المعتقَل عَبر شاشَة هاتِف جندي، حيث يَقول له: أنتَ معتقَل حتى نهاية الحَرب، دونَ أن يَستَفسر منه عَن وَضعِه وظُروفَ اعتقاله. يَفتَقر هذا الإجراء بحدّ ذاته إلى الحدّ الأدنى من مسؤوليّة الجهاز القَضائي في المساءَلَة المتعلّقة بالسّجون ومراقَبَتها وظُروفِ المحتجَزين فيها. هذا الدّور مطلوب بل هو واجبٌ على القُضاة حينَ تَغيب كلّ إمكانيّة رقابَة أُخرى كَما هو الحال في هذه السجون.
لا يَعرِف "م.ع" أين هو ولِمَ هو مَوجود هنا- سؤال يتكرّر مَع كلّ زيارة أَقوم بِها لأَسير- والأَصعَب أَنّه لا يَعرِف إلى مَتى سيَبقى في السّجن. أمضى حتى الآن في هذا السّجن قرابة ثمانية أشهر في ظُروف لا إنسانية، قاسية ومُهينة تَصل حدّ التّعذيب، الأَمر الذي ينتهك بشكلٍ فظّ القانون الدولي وعلى رَأسه اتفاقيّة مناهَضَة التّعذيب الّتي تَمنَع وبِشَكل مطلَق ودون استثناء أيّ شكلٍ من أشكال التّعذيب أو المعاملة القاسية والمهينة واللاانسانية. وقّعت إسرائيل على هذه الاتفاقيّة بل وأقرّتها في العام 1991، لكنّها لم تَعمَل حتى الآن على سنّ أيّ قانون يُجرّم التّعذيب.
اعتَقَل الجنودُ "م.ع" من غزّة، نكّلوا بِه ثم نُقِل إلى "سديه تيمان"، حيث بَقي هناك قرابة شهرين، ثم نُقِل إلى "عوفر" العسكري شهرينِ إضافيّين قبل أن يُنقَل لـ "ركيفت"، دونَ أن يلتقي بمحامٍ. فقد أَتاحَ التّعديل في قانون "المقاتِل غير الشّرعي" بعد السابع من أكتوبر مَنْع لقاء المحامين مدَّةَ ستة أشهر، وسَمَح بالاعتقال مدّةَ 45 يومًا دون إصدار أمر اعتقال، وعَدَم إحضار المعتقَل أَمام قاضٍ مدّةً تصل 75 يومًا. ممّا خَلَق وضعيَّة يمكن تَسميتها بـ "الاختفاء القَسري"، حيث يُختطَف الشّخص من داخل غزّة في غياب رَقابة قانونيّة.
"م.ع" كما آلاف الغزّيين مختطَف مَسجون لا يَعرف أَحد عنه شيئًا أو عن ظروف اعتقاله حيث لا تُعطي السلطات أيّ معلومات عن المعتقَلين قبل مُرور ستة أشهر. لاحقًا، حين بدأْنا زيارة الأسرى وسَماع شهاداتهم، تكشَّفت لنا فَظائع ما مرّوا به مِن تنكيل وتَعذيب ممنهَج ومَقصود. كانت قد وصلَتني عشرات التوجُّهات من الأهالي للسؤال عن أبنائهم المَفقودين من قَلب غزة، وأَرسَل بعضهم صورًا توثّق اعتقال الجيش الإسرائيلي لهم، ومنهم من يرتدي البَدلات البَيضاء الّتي كان يتم إلباسهم إياها، لكن الجَواب كان يَصِلني من السّلطات الإسرائيلية: "ليس هناك أيّ دليل على وُجوده في معتقَلاتنا"، وكانت هذه الّلحظات الأصعب بالنسبة لي وللعائلة. فمن هو معتَقَل وإِن طالَت إمكانية زيارته نَعرف على الأقل أنّه معتقَل. لكن في حالة مَن اعتُقل بِناء على أقوال العائلة وتقول السلطات إنّه غير موجود في سُجونها، يَبقى للأسف استنتاجٌ واحد، كان من الصّعب أن أَقوله للأهل. ولا أَنسى أسمهان وهي تقول لي "طيّب وين ابني"، "الله يخليكي يا أستاذة تلاقيلي إياه ما عِندي غيره زوجي وبِنتي استشهدوا".
لم تَكن رحلة العَذاب التي مرّ بها "م.ع" تَختلف عمّا مرّ به رفاقه من الأسر من غزّة إلى الدّاخل. ولا تَختلف كثيرًا عمّا يمرّ به كافة المعتقلين الفلسطينيين من الضفّة والقدس ومناطق الـ 48 خاصة منذ السابع من أكتوبر مِن سياسَة تعذيب وتَنكيل ممنهَجة. حيث بات ما كنّا نَعرفه مِن تَعذيب ما قبل هذا التاريخ يشكّل الحدّ الأدنى مِن تَعريف التّعذيب.
أَتاحَت حالة الطوارئ الّتي أُعلنت في السّجون بعد السّابع من تشرين الأول 2023 إغلاقًا كلّيًا للسجون مَنَعت زيارة المحامين وممثّلي الصليب والأهل. وبقي ممثلو الصليب والأهل ممنوعين حتى اليوم. سُحبت من الأسرى ومن الزنازين إمكانية التواصل، وخضَعوا لسياسة قاسية صارمة انعكست على مناحي الحياة كلّها، سياسةُ تجويع ممنهَج ومَنع علاج طبّي ومَنع الاستحمام أو التّقليل مِنه بِشَكل لا يَفي بالغَرَض، وسَحب الثّياب إلاّ قطعة والكتب وأدوات الكتابة وغيره، وانتشرت الأوبئة والأمراض الجلديّة المعديّة. ويَتم التفنّن بأشكال التّعذيب؛ وضعيّات "الشَّبح" والقرفصاء، ووضعية تُعرف بـ "الضفدع"، سَكب مياه ساخِنَة على الأجساد، الضّرب بأَدوات حادّة وعلى مناطق حساسة، والعَزل في غرَف "الديسكو" بموسيقاها الصاخبة التي تُفقِد الإنسان توازنَه وشعورَه بالمكان والزمَن، وغيره مِن ضُروب التّعذيب.
مرّ "م.ع" برحلة عَذاب تكثَّفت حين وصوله إلى سجن "ركيفت"، حيث يَقبع ورفاقُه في ظروف لا إنسانيّة في زنازين في قَبو تحت الأرض لا يَصِلُها ضَوء الشمس ولا نَوافذ فيها، حرارة مرتفعة خانقة ولا وجود لأَجهزة تهوية. لم يَرَ "م.ع" ضوءَ الشمس منذ وصوله إلى "ركيفت"، فما يُسمى "الفورة" (الخروج للساحة) هو عبارة عن خروج لغرفة أخرى مغلَقَة لا تُتاح دائمًا وأحيًانا لبضع دقائق فقط. يتعرّضون لـ "قَمْعات" دوريّة تُستعمل فيها الكلاب التي تضربهم بالحديد المحيط بوجوهها، ويتم الدّعس عليهم بأقدام السجّانين حيث يُجبرون على الانبطاح أرضًا. لا علاجَ طبيًّا، يَحضُر كلّ شهرين شخصٌ لا يلبس الرداء الطبي الأبيض يسأل عن الوضع لكنّه لا يُعطي أيّ نوع من أنواع الدّواء. يعاني "م.ع" من ضيق تنفّس جراء ظروف المعيشة لكن لا علاج.
لم يتمكن "م.ع" من التّفصيل حول وَضع السّجن، كيف يكون ذلك والسجّان الملثّم بالأسود الذي لا تُرى منه غير عُيونه- يَقِف خلفه من جهته -حيث أبقى الباب مفتوحا أيضًا- وما أن سألت "م.ع" عن ظُروف سجن "ركيفيت" حتى تمشّى السجّان خلفه ذهابًا وإيابًا بمعنى- أنا هناـ احذَر؟.
خَشيتُ وزميلَتي التي زارت السجن معي أن يكون المعتقلون على هذه الوضعيّة، فالحديث يدور عن سجن أُغلق منذ سنوات لكونه تَحت الأرض ولا يَفي بالحدّ الأدنى من شروط المعيشة، ولقينا ما خَشيناه. فلقد حضر لاصطحابنا لغرفة الزيارت السجّان الملثّم ذاته، نَزَل بنا درجات عدّة تحت الأرض ليتبيّن أن غرفة المحامين أيضًا تقع تَحت الأرض في حيّز لا يتعدّى مترًا واحدًا للغرفة، وكانت هناك 3 غرف للمحامين حُشِرت في مساحة لا تتعدّى ثلاثة أمتار. انتشرت الحَشرات على أرضيتها وتفتتت مما يدلّ على عدم استعمال المكان منذ فترة أو تعمُّد إبقائه على هذا الشكل. تساءَلنا وزميلتي إذا كان الوَضع هكذا في غرفة المحامين، فكيف هو على الجانب الآخر من الحائط- جانب الأسرى؟ وجاء الجواب كما توقّعناه للأسف.
خَرَجْت من الزيارة قلِقة على موكّلي وكُلّي خَشيةٌ أن يتمّ التّنكيل به بعد الزيارة، وكنت قد حدّثته بصوت عالٍ متعمدة أن يَصِل الحديث آذان السجّان، قلت إن أيّ تنكيل يتمّ به بعد الزيارة وبسببها هو جريمة يعاقِب عليها القانون، وأنّي سأقوم بزيارته مجدّدًا وأسأله عن الأمر. لكن كان بي بَعض الاكتفاء كوني مَكَّنتُه من رؤية والحديث مع "أول إنسان" منذ الاعتقال منذ سنة، وعرّفته بحقوقه، وأسعدني المَعرفة أنه سيُشحَن بأمل انتظار الزيارة القادِمة، زيارة إنسانية.