"زَيّ البابجي خَشّوا علينا"!

لا. لَن أحدّثكم عن أَجدَد الألعاب الشّهيرة في غزة. لأنّها لم تَعد هناك. ولَن أحدثكم إن كانت لعبة "البابجي" صحيّة لأطفال غزة ومناسبة لأَجيالهم بسبب عُنفها وسوء تربيَتها - فهذا لَن يَهمّ. ولن أحدّثكم عن "السوبر هيروز" (الأبطال الخارقين) المُحبَّبين على أطفال غزة. سأحدّثكم عن أبطال حقيقيين. عن أطفال غزة ودَورهم في تَزايد المناصَرة العالميّة. سأحدّثكم عن عدسة الطفولة التي عجزت وهي؛ وإن أُتيحت لها الحياة بإذن من الاحتلال؛ تُطالِب بخَلاص ورغيف خُبز. مَهما كَتَب الناس وظنّوا أنّ الحرب قد انتهت، فإنّها لم تنتَه. ليس فَقَط لِمزاج نتنياهو وألاعيبه السياسيّة، بل أيضًا لأنّ هنالك ما بَعْد الحرب وهيَ حَربٌ بأُمّ عَينها. حَربُ الأطفال النفسيّة في وَجهِ بيوتهم المهدَّمة. غاراتٌ من عَذاب الاستيعاب أو عَدَمه لفقدان أب، وأم، وأخ، وصديق، وجار. رُكامٌ دَفَن مكتبتَهم وزاوية أَلعابهم. حربٌ كاتِمة للصّوت والصورة؛ لا يُصغي لها ترامب ذو الحَواس الخَمس النرجسيّة المشتَهية تنصيبًا مَلَكيًّا وإلهيًّا، ولا تَراها أعين قادة آخرين شرقًا أقصى وغربًا ولربما عربًا.

سأحدّثكم عن وجوه عرَفناها كأنّها تَسكن حيّنا، شاركَتنا صوَرًا من خيمتها ومَطبخها المكوّن من خَشَبتين وبَعض الأواني. عن أيادٍ بَدَلًا مِن أن تلوِّح بالطائرة الورقيّة، باتت تلوّح بأَبسَط ما تبقّى لديها؛ معانَقَة العَلَم الفلسطيني، مستنجِدَة.

سأحدّثكم عن 'مشاهير' غزة - أطفالًا بَدَل أن تَعلوا ضحكاتهم للكاميرا من على الأرجوحة، اضّطروا أن يروِّجوا عن جوعِهم ونزوحهم عَبر شبكات التواصل، يستهلّون بابتسامة مخنوقة وأملٍ جريح، يعلّمون العالم معنى الصمود والجبَروت، أطفالًا اتّخذوا الشّاشة منفذًا يَدعون شُعوب العالَم لمناصرتهم وإنقاذ ما تبقّى من الإنسانية وأدنى حقوق الطفل. 

"ما تِنْسونا"، حكمت وجود (١٦ ألفَ متابع)

حِكمت طفلٌ من ذوي متلازمة داون، عاش الحرب دون رفقة مختصّين بسبب خصوصية الظّرف. فَقَد أخاه (كنان) في الحرب، وكانت له جود أخته (طفلة أيضًا) الأختَ والمعلمة والمعالجة والمهرّجة وكلّ ما يحتاج إليه أخوها. جود تُجيد اللغة العربية بشكل لافت جدًّا، تتحدّث الفصحى بطلاقة وطاقة. سلَّطت جود الضوء على مشاعرهم، وأوقاتهم المملّة والمرعبة في الوقت ذاته، وحزنهم، وفقدانهم، وفَرَحهم واحتياجاتهم. تُشارِك من واقعهم عن المَجاعة ونقْص المكوّنات اللازمة للعيش البسيط كالطحين؛ مؤكِّدة أن المساعدات القليلة والمحدودة لم تَصل الجميع. اشتهَرت صفحتهم أكثر عند نشر فيديوهات إعداد وجبات طِبق وصفات الشيف الأردنية ياسمين ناصر التي ناصَرَت الغزيين من خلال وَصَفات مبتكرة بمكونات بديلة ومتاحة في القطاع.

أَنظر إلى جود وحكمت وأَرى الحرب أَهلَكَتهم وسرقَت طفولتهم، بَريق أعينهم، بَسمَتهم وألعابهم. أبكَتني جود حين تحدّثت في إحدى الڤيديوهات بعد توقيع انتهاء الحرب عن وجعها لفقدان أخيها، وعن الهموم التي تَشعر بثِقلها، مناشدة "بَحبّ أقول لكلّ العالَم: يُمكن المَقتَلة توقفت لكّنا ما زلنا مشرّدين نازحين نعيش بخيم، في لهب الصيف وبرد الشتاء وما زلنا نفتقد الأشياء الّلي ممكن ترجّع البسمة لحياتنا. ما تنسونا وما تتركونا وضَلكم واقفين جَمْبنا، لإنّه نحن نستمد قوّتنا من قوّتكم".

(نَفَس عميق)

"مِشْ مُهمّ، مَحدّش بِسْمَع صوتنا"، ميلا عمرو (٢٤ ألف متابع)

ميلا طفلة صغيرة، أُخمّنها ابنة ٥ سنوات. وجهها فَرَح ونغاشة، مُضحِكة بطلّتها وأسلوبها. أحببتُها من النظرة (الفيديو) الأولى، بالرغم من قَساوة الڤيديو. عبَّرت ميلا في هذا الفيديو عن خذلانها والغزيّين من العالَم الذي بات لا يَسمع ولا يَرى ولا يتكلّم. 

"هيك الصورة واضحة؟"، قالت على خلفيّة مَقطع لسيدة مسنّة تُلملم فتات الطعام عن الأرض، وأكمَلَت- "مِشْ مُهمّ، مَحَدّش بِشوف صورتنا".

"هيك الصّوت واضح؟" قالت على خلفيّة مَقطع بكاء أطفال جياع، أَحَدهم رضيع يلوّح بقنينته الفارغة. "مِشْ مُهمّ، مَحَدّش بيِسمَع صوتنا"، مناشِدَةً مناصرة العالَم وتنديده لوقف الإبادة. 

هي أيضًا وجدت في الطّهي وسيلة للتواصل مع العالَم ومناشدته. الشّيف ميلا "أصغر شيف بغزة" كما تقول بدُعابة، شارَكَت عن ظُروف الطّهي وبدائل النار، وأسعار المكوّنات الخيالية، مِثل علبة بندورة صغيرة بـ ٢٠ شيكلًا (٤ أو ٥ أضعاف السعر الأصلي). يبدو أن الطّهي كان لعبة الأطفال المفضّلة، يلهون بها لعلّ عيونهم تَشبع وتُسكِت جوع أمعائهم.

(خَفقَة قَلب حزينة)

"إلى أينَ يَنزح النّازح؟" أفنان عاشور (٣٢ ألف متابع، حساب أختِها أسنام)

طفلة ناضجة، شارَكَت مواد مصوَّرة عن المرّات العديدة التي نجا فيها أخوها من الموت ليضمن كيس الطحين لعائلته. سلّطَت الضوء على مَسخرة مناطيد المساعَدات الجوية، التي بَعُدت كيلومترات عن مكان خيمتهم. تخيَّل أنّك ترى المؤن التي تنتظرها منذ شهور، تُقذف على شَعبك بشكل همجيّ، كما تعلَم أنّك لن تحصل على شيء منها.

استطاع المتابِع من خلال تنوّع منشورات أفنان أن يكوّن فكرة عن حياة النّزوح والعَيش في الخِيَم والبراعة بخلق الأشياء بقليل من الموارد. هي أيضًا وَجَدَت في الطّهي طريقة لإيصال صوتها للعالم، حتى استخدمت نزعَة 'فتح الصندوق - unboxing'، لكنّها بَدَل من أن تَفتَح صندوق لعبة، كانت تَفَتح رُزم المساعَدات المنتظَرة بعد شهور. من أصعب الفيديوهات التي نَشَرتها هو فيديو نزوحهم من بيتهم إلى خيمة، ومِن ثم كان نزوح آخر وآخر. كتبت "إلى أَينَ يَنزح النّازح؟ هو إحنا هيك حتكمّل حياتنا خلص؟ مِن نزوح لنزوح؟ يَعني المفروض نتعود؟!".

(صَفنَة غضب ولعنة)

"سنتين كَبَّروني ١٠٠ عام"، جويرية عدوان (٣٣٠ ألف متابع)

طفلة بعمر الياسمين، اثني عشر عامًا، تكتب وتقرأ الشّعر وتقول النثر بشَغف وغنى. وصّلت بصوتها وكتاباتها عن واقع غزة ألمًا وصمودًا، ضعفًا وعزّة، دمعًا وفرحًا. وثّقت صمودها من خلال الزّرع والرّفق بالحيوان، والطّهي، وإلقاء الشّعر، وبعض الصّور مع أصحاب الحقيقة: أنَس وصالح.

ناشَدَت العالم عن أمور عدّة؛ أهمها علاج أبيها والمجاعة.

منشوراتها غنيّة بالمضمون. أَكثَر منشورٍ كان لافتًا لي مَنشور عيد ميلادها، أقتبس منه مَقطعًا: "اليوم ذكرى ميلادي الثاني عشر وذكرى سنتين من عمري قضيتهما بين الحرب والركاب. سَنْتين كَبَّروني ١٠٠ عام، سَنتين علّموني كيف أقوى وكيف أتمسَّك بالحياة، حتى لو حاولوا يسرقوا طفولتي. أنا الّلي المفروض ألعب وأضحك صرت أكتب وأحكي وأوصّل صوتي للعالم، أعدّ إنجازاتي مِشْ بسنوات عمري، بل بصمودي وحروفي…". فِعلًا، أفنان بصلابة كلمتها وعفويّة شخصيتها، أوصلَت صوتها بعيدًا. 

(تنهيدة حَسرة)

"زَيّ البابجي خَشّوا عَلينا"، عبود المَجايدة (١.١ مليون متابع، صفحة أَخيه الكبير أشرف المجايدة) 

عبود الطفل الوسيم ذو الضحكة الجذّابة، عفويّ الإطلالة. كَلامه أَكبَر من سنوات عُمره الإحدى عشرة. يخاطِب المتابِعين بـ "يا جَماعة"، ويشارِك عن أصغر مشاكل الحَرب كَشَحن الهاتف عند الجيران في الحارَة المجاوِرة، قائلًا "أَوقِفوا الحرب، بِدنا كَهربا، عيب نضَل نروح عند الجيران، والله عيب"، وكَخَوف قطّته الجميلة بيضاء اللون من أصوات الطائرات والقذائف، تختبئ مرتَجفة، "الْبِسّة مرتعبة من الحرب، مِنْلاقيها مخباي وَرا الثلاجة". عانى عبود من التهاب الكبد الوبائي الذي انتشر بين الخيام في غزة خلال الحرب، وثَّق أخوه أيامه في المشفى في ظروف بدائية وفي ظلّ نقص المستلزمات الطبية. 

 عند مرور سنة على الحرب شارَك عبود "إحنا إلنا سنة بِنْعاني، فَقَدنا كتير: حبايبنا، مدارسنا، علمنا، جَوامعنا، أراضينا، بيوتنا، وكلّ إشي. مْنُطلب مِنْكو إنتو توقفوا الحرب بَسْ عالفاضي، ولا إشي أثَّر فيكو…. نحن عشنا أيام رعب، عشنا أيام زيّ في الأفلام، زَيّ البابجي خَشّوا علينا. قَعَدوا يقتلو فينا". واستنجد باكيًا "يا جماعة، نحنا مِش قادرين، أمانة توقفوا الحرب، الناس عَم بتموت، إحنا تعبنا مِشْ قادرين. كلّ الناس بتكذب علينا، بتقول هدنة بعدين فشّ هدنة". وفي فيديو آخر يأخذ المتابِع داخل بيته المهدّم، ليُخرج من بين الأنقاض من خزانته المكسورة شهاداته المدرسيّة، قائلًا بحسرة "يا الله، والله كتير بحزن على الأيام هَديك، راحَت (يتنهّد). اشتقت للمدرسة كتير". 

لا يمكن للمتابع إخفاء فرحته لفرح عبود وحماسته وبَريق عينيه بعد إعلان انتهاء الحرب.

(دمعة)

"الحريّة لفلسطين"، ريناد عطالله (١.٧ مليون متابع)

ريناد الشّيف والمبادرة، تَشتهر بطابعها المَرِح والإيجابي رغم الأوضاع، نالَت وصفاتها المميّزة ببساطتها ومجموعة بلوزاتها الملَّونة برسمتها الكرتونية الشّهيرة وكتابة الحريّة لفلسطين إعجاب العديد من المؤثرين العالميين والمشاهير إضافة إلى "واشنطن بوست" وغيرهم. بالرغم من عُلُوّ عزائمها، فإن ريناد أيضًا باتت تفقد الأمل في أوج المجاعة، قالت: "فيديو (الأكل) زمان (في بداية الحرب) كان يجيبلي أمل، وأنا أنشر الأمل فيه. هَلقيت صِرت وأنا أصّور الفيديوهات أحسّ باكتئاب، أحسّ إنّه أنا حزينة لإنه فشّ إشي أصوره (لعدم توفر موارد طعام)، بدل ما الأكل يكون رمز الصمود والأمل، صار رمز للأطفال الّلي عَم بتموت (حرفيًّا) من الجوع والمجاعة وكلّ الأشيا البشعة".

لكنّها استمرت بصمودها ورسالتها. أتاحت لها شُهرتها فرص تعاون مع مؤسسات إنسانية عالمية لجمع التبرعات وتوزيع رزم مساعدات لأهل غزة. ريناد من أطفال غزة الذين ابتسمت لهم الحياة لتنجو من الحرب وتسافر إلى هولندا؛ سوية مع أختها وأخيها، لكن بعيدًا عن أمها وأخواتها الثلاث الآخريات، وذلك ضمن منحة تعليم. ريناد ما زالت تناشد وتتظاهر من أجل غزة في شوارع أمستردام، تحمل يافطات "الحريّة لفلسطين". 

(بسمة مختنِقة وأمل)

لا تتّسع مقالة أو جريدة بأكملها لقصص أطفال غزة الذين ناشدوا العالَم بطرقهم الخاصة مِن مطابخ خيماتهم التي بنوها من جديد بعد كلّ نزوح أو دمار. بينما يشتهر أطفال العالَم بمواقف طَريفه تُلتَقَط لهم في حضن والديهم، أو في حديقة الألعاب أو في السيارة، يلجأ أطفال غزة لمشاركةٍ يوميّة من حياتهم تحت القصف، من بيوتهم المدمَّرة وأنقاض صحّتهم النفسية؛ وذلك كَأَداة لتحفيز المناصَرة واستدعاء التضامن.

بينما تثقّفنا التربية الحديثة عن تأثير الشاشات على الأطفال، وحظر مشاهدة مضامين عنف، تأتي صفحات هؤلاء الأطفال لِتُسقِط جميع الأقنعة من خلال نشراتهم التي توثّق تجويعهم وحرمانهم طفولتهم وتشريدهم ونزوحهم وتعذيبهم وقتل أحبابهم وأطفال يشبهونهم. يشاركون لعلّ العالم يستيقظ لإنقاذ ما تبقّى من الإنسانية. 

استيقظَ العالم، حين راقَ له، بعد أن استشهد أكثر من عشرين ألفَ طفل.

(حُزن ومن ثم صَلاة)

ليحمي كلّ قادر أطفال غزة الآن ودائمًا وأطفال العالم أجمع أبدًا.

د. حنان خميس

مهندسة ومبادرة اجتماعية. 

مهندسة مختصة في مجال الهندسة الطبية، مديرة منتج في شركة Siemens Healthineers  الألمانية، ومؤسسة شريكة لجمعية نساء عربيات في مجالي العلوم والهندسة AWSc.

رأيك يهمنا