خُطّة ترامب مِن طينَةِ وَعَد بِلْفور، أَمّا الشّرعيّة فَيَصرُخ بِها الشّارِع

أكثر من مئة عامٍ مرّت على "وعد بلفور" المشؤوم، الّذي مَحى في بضعة أسطُر الوجودَ الفلسطينيّ الممتد عميقًا في التاريخ، وحوّل الفلسطينيين إلى مجموعةٍ من "غير اليهود"، متجاهلًا أنّهم أصحابُ البلاد الأصليين، وأنّ لهم إرثًا قوميًّا وحضاريًّا ودينيًّا ضاربًا في القِدم، في أرض طالما كانت مهدًا للدّيانات، وفي وطن مع شعبٍ حيّ، محبٌ للأرض والحياة.
لم تتلاشَ هذه العقلية الّتي أسّس لها وعد بلفور حتّى يومنا هذا. أكثرُ من مئة عامٍ وما زالت هذه النّظرة الاستعماريّة والاستعلائيّة تُستخدم من الكثيرين للتّشكيك في حقوق الفلسطينيين التاريخيّة، وفي حقّهم في التّحرر من نير الاحتلال والاستعمار، وحقّهم بدّولة ذات سيادة وباستقلال وطنيّ. كان نَزْعُ الإنسانيّة عن سكان البلاد الأصليين ولم يزل إحدى السِّمات الأساسيّة الّتي رافقت الحركات الاستعمارية في الدّول الغربيّة والإمبرياليّة، وهي ما سهّلت أيضًا النّكبة الفلسطينيّة الّتي تمثّلت بالتّطهير العرقيّ لغالبيّة أصحاب البلد الأصليين، ثم الاحتلال عام 1967، والقمع المنهجي ونظام الفصل العنصريّ، وانتهاءً بالحرب التدميرية في قطاع غزّة. لكنّ كلّ هذا لم يُخمد ولم يُطفئ شعلة النضال الوطني الفلسطينيّ، بل على العكس تمامًا، لم يزل الشّعب الفلسطينيّ متمسكًا بُحلمه الطويل بالحرية والاستقلال مثل باقي شعوب الأرض.
أُقرّ اليوم العالمي للتّضامن مع الشّعب الفلسطينيَّ في نفس تاريخ ذكرى صدور قرار الجمعيّة العموميّة للأمم المتّحدة رقم 181 من العام 1947، الّذي نصّ على تقسيم فلسطين، ليذكّر أنّ المجتمع الدّوليّ بأنّه لم يفِ بوعوداته والتزاماته وقراراته تجاه الشّعب الفلسطينيّ، فدولة إسرائيل اعتمدت على القرار لتستمدّ منه الشّرعيّة الدّوليّة، لكنّها تنكّرت للجزء المرتبط بإقامة دولة عربية فلسطينيّة مستقلّة، ولم تقم دُول العالم بما يكفي لتُجبر إسرائيل على احترام القانون الدّولي وحقّ الشّعب الفلسطينيّ في تقرير المصير. على الرّغم من أنّ قرار التّقسيم في صيغته الأصليّة دعا إلى تقسيم البلاد تقريبًا بالتّساوي ما بين الدولتين، فإن التطورات التاريخيّة والسياسيّة قادت إلى موافقة القيادة الفلسطينيّة ومنظّمة التّحرير الفلسطينيّة على القبول بـ 22% فقط من أرض فلسطين التّاريخيّة وهي حدود عام 1967.لكن هذه الموافقة لم تَشفع للشعب الفلسطيني ولم تحقّق له مراده بالتّحرر والاستقلال الوطنيّ، بل على العكس من ذلك، فقد قوبلت هذه التّسوية الفلسطينية بتوسّع منظومة الاستعمار الاستيطانيّ، وتكثيف المستوطنات والاستيلاء على الأراضي الفلسطينيّة وزيادة التّنكيل بالإنسان الفلسطينيّ تحت الاحتلال.
جاء اليوم العالمي للتّضامن مع الشّعب الفلسطينيّ ليقول إنّ شّعوب العالم لا يمكن أن تَقبل باستمرار الاستهتار بالشّعب الفلسطينيّ وبضرب حقوقه الوطنيّة المشروعة عرض الحائط، وللتأكيد على أنّ لشعوب العالم قاطبةً دورًا حاسمًا في مسيرة التّحرير والاستقلال وإجبار الحكومات على الامتثال للشّرعيّة الدّوليّة، وقد رَأَينا في العامَين المنصَرمِين التّعبير الأَسمى عن دور الشّعوب في ظلّ فشل الحُكومات، بل وتواطُئِها، إذْ جابَ عَشَرات المَلايين حول العالم الشّوارع في دولهم مطالبين بوقف الحرب على غزّة، ووقف التّجويع وإنصاف الفلسطينيين ونُصرتهم، وهذا ما دَفَع العديد من الحكومات (بعضها حليفٌ مركزيّ لإسرائيل) للاعتراف بالدّولة الفلسطينيّة، وفي بعض الحالات، دفعهم إلى فرض عقوبات على أفرادٍ في الحكومة الإسرائيليّة، وإيقاف تصدير الأسلحة إلى إسرائيل أو تجميده.
بالنسبة إلى كثيرٍ من شعوب العالم، لم تَعد قضيّة فلسطين مجرّد قضيّة موجودة ما وراء البحار، بل أصبحت ترتبط بتحرّرهم هم، فكثيرٌ ممن يعانون من التّهميش والإقصاء، أصبحوا يرون في التّحرر الفلسطينيّ تحرّرًا لهم هم، وكثيرٌ ممن يبغضون النّظام العالميّ الرّأسماليّ النيوليبرالي رأوا أنّ النظام الّذي يسحقهم من أجل مراكمة الأرباح هو ذات النظام الّذي يَسحق الفلسطينيين من أجل درّ الأرباح على المستفيدين من الاستعمار الاستيطانيّ ومجمّع الصّناعات العسكريّة في الغرب، ورأى كثيرٌ أن إنسانيتهم لن تَكتَمل ما دامت إنسانيّة الفلسطينيّ منقوصة ومستباحة.
في يوم التضامن الأُممي مع الشعب الفلسطيني نؤكد على أهميّة استمرار هذا النّضال العالميّ، العابر للحدود والقارات، وعلى أهمية أن تُمدّ لَه الأيادي، وجسور الشراكة والتّعاون، حتّى يتحوّل هذا المدّ الشّعبي إلى سياسةٍ رسميّة، سياسةٍ تُعجّل بانتهاء الاحتلال وتقريب الحريّة والاستقلال.
تطوراتٌ عديدة شهدتها القضيّة الفلسطينيّة طوال العامين الأخيرين في ظلّ الحرب التدميرية على غزّة، آخرها كان "خطّة ترامب" لوقف إطلاق النّار في غزّة وإنهاء الحرب. لكنّ هذه الخطّة تتنكّر للاعترافات الدّوليّة المتصاعدة في العالم بالدّولة الفلسطينيّة، وتَضرب بعرض الحائط الإجماع الدولي الرّاهن وقرارات محكمة العدل الدّوليّة حول حق الشّعب الفلسطينيّ بإقامة دولته المستقلّة ذات السيادة. القضيّة المركزيّة الّتي تبرز بغيابها عن هذه الخطة هي قضية الاستقلال الوطنيّ الفلسطينيّ وإقامة الدّولة الفلسطينيّة.
يجب أن تَشمَل أيُّ مبادرة جدّية في الظّروف الدّوليّة الرّاهنة ليس فقط إنهاء الحرب، وإنما أيضًا التّأسيس لمسار دوليّ يقود لإحقاق حق الشّعب الفلسطينيّ بإقامة دولته المستقلة مثل باقي شعوب الأرض. هذا الحق الفلسطينيّ بدولة مستقلة وذات سيادة مُثبت على صعيد القانون الدّوليّ بقرارات دوليّة ملزمة، وكذلك بحسب قرارين مهمّين لمحكمة العدل الدّوليّة، الأوّل من العام 2004 الّذي أقرّ عدم قانونيّة الجدار العنصريّ الفاصل، والثاني إبان الحرب من العام الأخير 2024 حول عدم قانونية الاحتلال الإسرائيلي لأراضي عام 1967 وعدم قانونية الاستيطان في هذه الأراضي. وقد دَعَت محكمة العدل الدوليّة في قرارها الأخير دول العالم والمؤسسات الدولية كلّها إلى العمل على اتّخاذ الخطوات العملية من أجل ضمان إقامة الدّولة الفلسطينيّة وإيقاف معاناة الشّعب الفلسطينيّ.
الدولة الفلسطينيّة ليست طموحًا فلسطينيًّا فقط، وهي ليست مشروطة بتغيّرات مستقبليّة كما جاء في النصّ الضّبابيّ لخطّة ترامب حول ذلك، بل هي حقّ تاريخيّ تدعمه الغالبيّة السّاحقة من دول العالم وتقرّه محكمة العدل الدوليّة، وهذا يجب أن يكون أمرَ الساعة في كلّ حراك دوليّ، أخلاقيًا وحقوقيًا. الدّولة الفلسطينيّة ليست مِنّة من رئيس أمريكي أو مبادرات آنيّة، بل هي حقّ تاريخيّ عادل تدعمه بقوّة قرارات الشرعية الدولية.
القضية الفلسطينية هي امتحان للشرعيّة الدولية، حقوقيًّا وأخلاقيًّا، وإذا فشل القانون الدولي والمنظمات الدولية التمثيلية في نصرة القضية الأَعدَل اليوم في العالم، فهذا مؤشر خطير على تراجع المنظومات الدولية، بل على انهيار المعايير الانسانية التي صاغتها البشرية طوال مئات السنين.

د. يوسف جبارين
أكاديمي وناشط حقوقي، نائب سابِق في الكنيست في القائمة المشتركة عن الجبهة الديمقراطية.



