الحَرَكة الطُلّابية بين فكيّ الفاشّية والحَرب

لَم تَكُن عِبارَة "أَخرِجوها مَن الجامِعة" مَجرّد مَقولة عابِرَة في مَسيرتي الطلابيّة، بل كانت الجُملَة التي رافقَتني في كِلتا الملاحَقَتين السّياسيّتين الّلتين تعرَّضت لهُما داخل الحَرَم الجامعي. في مراسم إِحياء النكبة عام 2022، الحَدَث الذي شكّل وعيي الأوّل بالنضال الطلابي، أدركْت للمرّة الأولى معنى المسؤولية ودَور الطلاب في الفِعل السياسي. لم يكن ذلك الحَدَث بالنسبة إليّ مجرّد تجربة عابرة، بل نقطة تحوّل دفعتني في عامي الأول في جامعة تل أبيب إلى خوض تحدٍّ للحِفاظ على هويّتي بأيّ ثَمن، ورفض كلّ محاولة لإسكاتي أو تَدجيني.
منذ تلك الّلحظة، أصَبَح عَمَلي الطلابيّ أولويّة نضاليّة لا يمكن التّراجُع عنها. غَير أنّ الملاحَقَة لم تتوقّف عند هذا الحدّ. فَبَعد أيّام قليلة من الحَرب على غزة، وَصَلَني مِن أَحَد الأَصدقاء أن طلابًا في الجامعة يواصِلون ملاحَقَتي عَبر وسائل التواصل الاجتماعي، مطالِبين بطَردي من الجامعة واعتقالي. كانت تلك الحَملة تتجاوَز حياتي السياسيّة لتَطال حياتي الشخصيّة أيضًا. مع ذلك، لم أرَ فيها حدثًا استثنائيًّا مقارنة بما يتعرّض له طُلاب آخرون، حزبيّون كانوا أم مستقلّين، طلاب وطالبات على حدّ سواء.
ما مَرَرت به أنا وغيري في السنوات الأخيرة ليس إلّا امتدادًا لمسلسل طويل من الملاحَقات السياسية ضدّ الطلاب والحركات الطلابية منذ تأسيسها في سبعينيات القرن الماضي. فقد شكّل الطلّاب الجامعيّون، على الدوام، أَحَد أهمّ أعمدة النضال الجماهيري والسياسي، إذ أن وجودهم داخل المؤسسات الأكاديمية الإسرائيلية له أَثَر مباشر على طبيعة الصّراع وأدواته.
الجامعة هي ساحَة التّماس الأولى بين الطالِب العربي الخارج من فَضائه الاجتماعي الضيّق، من قريته أو بلدَته، والمجتمع الإسرائيلي الأوسَع. في بلدته، يَعيش الطالب داخل حيّز عربي يَحميه نسبيًّا من المواجَهَة المباشرة مع مؤسسات الدولة ومجتمعِ الأغلبيّة بالأساس وبنية الاضطهاد القومي التي تَحكُمُها. لكنّ دخوله إلى الجامعة يَعني الانتقال إلى فضاء آخر، فضاء تُصبح فيه المواجَهة مع مؤسسات الدولة وبُناها وبنية المجتمع الإسرائيلي وأيديولوجيا التفوّق العِرقيّ التي تحكمه أمرًا يوميًّا ومباشرًا. هناك يَكتشف الطالب شَكل النظام الذي يَعيش فيه بشكل أَوضَح، ويلامس بعُمق بنية السيطرة التي تَحكم حياته، من السّياسيات الأكاديمية إلى العَلاقات الاجتماعية، وكيف تعمل مؤسَّساته، ويصطدم بالحدود التي تَضَعها أمامه — من عنصرية وعدوانيّة وتمييز، ويَختبر لأول مرّة حدوده بشكل واضح داخل منظومة لا تراه كفردٍ متساوٍ، بل كـ ”آخر”. بهذه التّجربة يتحوّل التعليم إلى مواجَهَة حقيقيّة مع واقع الاضطهاد القومي والتّمييز، وتفتح أمام الطالب أسئلةً جديدة حول مكانته وهويّته ودوره في هذا المجتمع.
في ظلّ هذا الواقع، حَمَلت الحَركات الطلابية مسؤوليّة تحويل النّضال الطلابيّ مِن فِعل فَردي إلى فِعل جَماعيّ منظَّم، وساهمت في غرس الفكر الوطني والسياسي داخل الوعي العربيّ في الجامعات، ذلك الوعي الذي جَرى تقييده سنواتٍ طويلة داخل المؤسَّسات الأكاديمية. كما أدّت هذه الحركات دورًا محوريًّا في حماية الطلاب من سياسات القمع والترهيب التي مارستها وتمارسها الحكومة الإسرائيلية، ومن سَلبِهم فضاء الحريّة الفكرية والأكاديمية.
مِن خلال عَمَلي داخل الجبهة الطلابية، رَأَيت عن قُرب قدرَتَنا الكامنة على انتزاع حُقوقنا كطلاب مهمّشين داخل النظام الأكاديمي الإسرائيلي. خير مثال على ذلك هو مَراسم النكبة عام 2024، التي جاءَت بعد حَرب الإبادة على غزة تحت شعار "أَوقِفوا الحَرب". في البداية، وُصِف عملُنا بالجنون، لِجُرأَتنا على تحدّي الواقع الذي فَرَض الصّمت علينا ومَنَعنا من رفع صوتنا. مع ذلك، كنّا نَعي أنّنا إذا لم نحافظ على حقّنا في التّعبير ورَفض الحَرب على أبناء شعبنا، فإنّ هذه المَراسم، التي تُقام منذ سنوات، سَتَختفي ومعها كلّ أشكال الاحتجاج السياسيّ التي تَربِطُنا بمآسي شعبنا.
هُنا تَجلّى دَور الحَركة الطلابيّة: أن تتحدّى الواقِع وتَفرِض رؤيتَها على الجامعة والمؤسَّسة الإسرائيلية. وبالفِعل، انتزَعْنا حقَّنا من الشرطة وأَقَمنا المَراسم كما أرَدنا، وكان المَشهد مَهيبًا — عشرات الطلاب الفلسطينيّين متّحدون في ساحة الجامعة، رَغم أَصوات التّحريض من اليَمين ورغم الخَوف الذي يخيّم في القلوب.
لم يأتِ ذلك الخَوف مِن فَراغ، بل هو نتيجة مباشِرة لسِياسات المؤسَّسة الإسرائيليّة تِجاه الطلاب العرب. لم يكن مستغربًا أَن تكون الفئة الطلابية أوّل هدَف لحملات التّرهيب والانتقام. ففي تلك المرحلة، خَرَجت الأكاديميا الإسرائيلية عن مَسارها الديمقراطي بشَكل غير مَسبوق، إذ تحوّلت إدارات الجامعات إلى أجهزة رَقابة تُتابِع حسابات الطلاب الشخصية، بل ومنَحَت بعض زملائنا الطلاب الإسرائيليين صلاحيّة مراقبتنا والتّبليغ عنا.
مع اندلاع الحَرب، شَهِدنا في معهد التخنيون اعتداءات متكرّرة من طلاب اليَمين على الطلاب الفلسطينيين، حيث نُشرت منشوراتهم على وسائل التواصل الاجتماعي ونُقلت إلى إدارة الجامعة، مطالبةً باعتقالهم وطَرْدهم من التعليم — وهو ما حدث فعلاً.
في تلك الفَترة، خَضَع أكثر من 160 طالبًا وطالبة، معظمُهم من الطالبات، إلى لجان طاعة واعتقالات ممنهَجَة. كان الهدف مزدوَجًا: إخضاع الطالبات لسياسات الاضطهاد، وضَرب النسيج الأكاديمي العربيّ من خلال الفئة النسائية، التي تُعدّ الأكثر حضورًا في التعليم العالي.
رافَقَت هذه الملاحَقات حالة عامة من التّحريض المنهَجي ضدّ الطلاب العرب والمحاضرين الفلسطينيين في الجامعات، بالتّوازي مع حملات إعلامية وشعبية استهدفت أيضًا القوى اليهوديّة الديمقراطية المناهِضَة للحرب. وبهذا، تحوّل الحَرَم الجامعي -الذي يُفترض أن يكون فضاءً حرًّا للفكر والنقاش- إلى ساحة صراع سياسيّ وأمنيّ، انعكست فيها سياسات العَسْكَرة والاستقطاب القومي ضدّ الطلاب الفلسطينيين وضدّ كلّ صوت يهوديّ تقدّمي يرفض الحرب وينتقد الاحتلال.
لَم يَقتَصِر هذا المَناخ القمعيّ على اللجان التأديبيّة أو على مضايَقات داخل الجامعة فَحَسب، بل امتدّ إلى المجال الاقتصادي والاجتماعي، إذ طالَت الملاحَقات الطلاب العرب والفلسطينيين الديمقراطيّين حتى في أماكن عملهم. وقد فُصل عدَد منهم من وظائفهم بذرائِع واهية، في ممارَسات كَشَفت عن عُمق البنية العنصريّة التي تَسعى إلى إسكات أيّ موقِف نقديّ أو إنساني، وتَحويل معاقَبَة الرأي إلى وسيلةٍ للانتقام من المخالِفين وتجويعهم.
لا يمكن أيضًا تجاهل ظاهرة عَسْكَرة الجامعات، التي تحوّلت في السنوات الأخيرة إلى أَحَد أخطر مظاهر السيطرة الأيديولوجية داخل الحَقل الأكاديمي الإسرائيلي. فقد غَيّبت عن الجامعة هويّتها كمؤسسة مدنيّة قائمة على الفكر النقديّ والحرية الأكاديمية، لتتحول تدريجيًا إلى امتداد مباشر للمؤسسة العسكرية، سواء من حيث البنية التنظيميّة أو من حيث الخِطاب السائد في أَروِقَتها.
لقد باتَ الحَرَم الأَكاديميّ في كثير من الجامعات أَشبَه بثَكَنَة عسكريّة، تُرفع فيها شعارات الوَلاء للدولة والجَيش فوق مبادئ البحث العلميّ والنقاش الحرّ. فمع اندلاع الحَرب الأخيرة على غزة، أَعادَت إدارات الجامعات صياغة أولوياتها بما يتوافَق مع "الروح القتاليّة" للدولة، ففُتحت أبواب الجامعات أمام جنود الاحتياط العائدين مِنَ الجبهات، ومَنَحَتهم تسهيلات أكاديمية استثنائيّة — من تأجيل المتطلّبات الدراسية وتخفيضها، إلى مَنح نقاط استحقاق إضافية — في حين حُرم الطلاب العرب من أبسط حقوقهم الأكاديمية بذريعة “الظروف الأمنية”.
رَغم أنّ ظاهرة عَسْكَرة الجامعات الإسرائيلية ليست أمرًا جديدًا، فإنّ ما يميّز العامين الأخيرين هو تحوّل جوهري في موقع الجامعة نفسها. فلم تَعُد مؤسسة تتأَثّر بالسياسات الأمنية من الخارج، بل غدت فاعلًا مباشرًا في إنتاج الخطاب العسكري وتطبيقه على الطلاب العرب. فقد تبنّت إدارات الجامعات لغة أمنيّة ممنهَجة تبرّر الملاحَقة والتّجريم، مستخدمة مفردات مثل "الأمن القومي" و"المصلحة الوطنية" كذرائع لإسكات أيّ صوت ناقد للحرب أو معارض لسياسة الإبادة ضد الفلسطينيين.
في موازاة ذلك، شَهِدت الحُرُم الجامعية انتشارًا غير مسبوق للسّلاح المدني والعسكري، حتى بات حضور الجنود بزيّهم الرسمي داخل قاعات المحاضرات مشهدًا يوميًّا مألوفًا، فيما سُمح لطلاب مسلّحين بحمل أسلحتهم داخل الحرم بحجة “الحماية الذاتية”. وقد أسفر هذا الواقع عن بيئة من الخوف والتهديد الدائم، أَعادَت تَشكيل ميزان القُوى داخل الجامعة، بحيث لم يَعُد الطالب العربيّ يُعامَل كفردٍ أكاديمي متساوٍ في الحقوق، بل كـ“خطر أمنيّ محتمل” يُراقَب ويُحاسَب على هويته قبل أفكاره.
في العامين الأخيرين، واجَه الطلاب والحركات الطلابية تحدّياتٍ قاسية ومحاولاتٍ متكررة لمحو هويتهم وإبعادهم عن العمل السياسي. لكنْ رغم ذلك كلّه، فَشِلَت المؤسَّسة الأكاديمية في تحقيق غايتها. لقد ظلّت عزيمتنا على الاستمرار أَقوى من القمع كلّه، مستنِدَة إلى إِرث طويل من النضال الممتد منذ النكبة في الوعي الفلسطيني عامة والطلابيّ خاصة.
إنّ تَوحيد صفوفِنا وبناء شَراكات مَع مَجموعات يهوديّة تقدميّة أَثبَتا أن لا شيء يمكن أن يُبعدنا عن خطّنا السياسي الوطني والتقدّميّ الذي ترَعرَعنا عليه.
ما زالت أَمام الحركة الطلابية عقبات كثيرة، لكنّها تتميّز بقدرتها على الصمود والتجدّد. فهي لا تتراجَع أَمام القَمع، بل تواصِل السّعي نَحو الأَفضل لطلّابها، مؤمنةً بأنّ لكلّ طالب الحقّ الكامل في اختبار هويّته بحريّة، كي يُطلق طاقاته الكامنة ويسهم في نهضة مجتمعه وتحسين واقعه.




