الإِبادَة لها وَجه نِسائي: نِساء غَزّة جَديرات بِقِيادَة التّحَرُّر

في التاسع من أيلول/ سبتمبر 2025، في مدينة شرم الشيخ، أُعلِنَ عن اتفاق بشأن المرحلة الأولى من خطّة سلام في قطاع غزة. انشَغَل كثيرون بالسؤال عن الأسباب والتّوقيت، وتوالت التكهّنات بين من رأى في الاتّفاق فرصة ذهبيّة لإنهاء الصراع ورفع المعاناة، والمشكّكين الذين اعتبروه مناوَرَة سياسيّة مؤقَّتة. احتفى البعض به كنقطة تحوّل تاريخية، بينما حذّر آخرون من أنّ الاتفاق قد يكون مَحضَ تسويق إعلامي يُنقذ إسرائيل من عُزلتها الدوليّة ويُغطّي استمرار المأساة الإنسانية على الأرض. مهما كانت الأسباب، يجب ألّا يعمينا هذا الاتفاق عمّا حَصَل ويَحصل في غزة والضفة أيضًا، ولا أن نتوهَّم بأن الحرب قد انتهت. يجب ألّا نَنسى أن هناك واقعًا مريرًا على الأرض: أرواح فُقدت، وبيوت دُمّرت، وأجيال بأكملها حَمَلَت وستحمِل ندوب هذه الإبادة الجماعية. ولا يجب أن تَمحو الاتفاقيات والتّصريحات الدولية، مهما بَدَت واعدة، واقعًا مرًّا لا يزال يُكتب على أجساد وأرواح من دَفَعن الثّمن الأكبر في غزة: النساء والأطفال. فبينما ينشَغل العالَم بتقييم بنود الاتفاق وجدواه، تستمر معاناة لم تتوقّف لحظة واحدة.
للإبادة الجَماعيّة في غزة بنية جندريّة واضحة، حيث استُشهدت أكثر من 33 ألف امرأة وفتاة، وشكّلت النساء والأطفال خلال الأشهر السبعة الأولى من الحرب 70 في المئة من الضحايا المُتحقَّق منهم. خلال عامين، أصبحت غزة بؤرة النزاع الأشدّ فتكًا بالنساء في العالَم، ودفَعت نساء غزة الثمن الأكبر لحرب الإبادة هذه، حيث تجاوزَت معاناتهن ما هو متوقّع في أيّ صراع. فَقَدن أساسيّات الحياة، حُرِمن المياه والنظافة الشخصية حتى أثناء الدّورة الشهرية، حُرِمن الرّعاية الطبيّة حتى أثناء الحمل والولادة، تعرَّضن للعنف الجنسي والجنساني، وأُلغيت الحماية الأساسية الضروية لهن. حَمَلن في ظروف لا إنسانية، وأنجَبن في خيام وملاجئ مرتجَلة دون مراقبة طبية أو أدوية لتسكين الألم. توفيّت نساء حوامل من مضاعفات يمكن الوقاية منها، بينما أَجهَضت أخريات تحت نار الحرب، والتّهجير، والنزوح، والجوع، والخوف.
مستشفيات الولادة في القطاع قُصفت، وما لا يقل عن 94% من المستشفيات تعرّضت للضّرر أو الدّمار. ضربة إسرائيلية واحدة قَضَت على 5 آلاف من الأجنة ودمَّرت أكبر مخبر للتلقيح الاصطناعي في القطاع، مجهزِة بذلك على الأمل الأخير لمئات الأزواج بالإنجاب. لم يكن هناك تحذير، لم تُنقل الأجنة، لم يُعطَ وقت. فقط دمار كامل. لن تُتاح لتلك النساء فرصة أخرى للحمل.
بدَمار المدارس والجامعات فَقَدت الفتيات والنساء الشابات فرصَهن في التعليم والعمل والحراك الاجتماعي. وواجهن العنف الجندري المتزايد في ظروف النزوح والفوضى، حيث انعدمت الحماية وانعدم الأمان. وبخسرانهن منازلَهن وممتلكاتهن، فَقَدن أيضًا استقلاليتهن الاقتصادية والاجتماعية، فَقَدن خصوصيّتهن وكرامتهن. فَتَك التجويع بنساء غزة فتضوّرن جوعًا حتى وهنّ حوامل ومرضعات، وأُجبرن على إرضاع أطفالهن ماء الأرز وإطعامهم التّمر إن وُجد بدلًا من الحليب. أُجبرن على النزوح المتكرّر، وتعرّضن للفقدان المستمر ولاستنزاف عاطفيّ لا ينتهي.
أمام هذا الواقع المَرير والتّضحيات الفادحة التي دفعتها نساء غزة وفتياتها على وجه الخصوص اختفى التضامن الحقيقي مع الشعب الفلسطيني، وفشِل الحراك النسائي والنسويّة خصوصًا في اتّخاذ موقف صريح وحاسم مما يجري. إن النسويّة التي تَصمِت عن الإبادة الجماعية، أو تبرّرها، أو تسعى لإيجاد "توازن" مزعوم بين الجلاد والضحية ليست نسويّة على الإطلاق، بل هي نسويّة إمبريالية تخدم مصالح الاستعمار. تُدرك النسوية الحقيقية أنّ أنظمة القمع متشابكة ولا تنفصل، وأن الاستعمار الاستيطاني والعسكَرة والعنصريّة البنيويّة التي تدمر غزة هي ذاتها التي تقمع النساء والأقليات في كلّ مكان من العالم. العنف ضد المرأة والعنف الاستعماري لا ينفصلان وكلاهما يَشترك في منطق واحد: السيطرة على الأجساد والأراضي، المَحو المنهجيّ، وزرع اللاإنسانية. تمثّل محاربة أحدهما وتجاهل الآخر تناقضًا منطقيًّا وأخلاقيًّا لا يُحتمل.
ليس التضامن الحقيقي كلمات وشعارات، بل هو فِعل مُكلف وملموس يتطلّب تضحيات حقيقيّة وخيارات صعبة. يعني سحب الاستثمارات من الشركات التي تَربح من الاحتلال والاستعمار الاستيطاني. يَعني مقاطعة المؤسسات الأكاديمية والثقافية التي تتعاون مع صناعات عسكرية تستخدم تكنولوجياتها ضدّ المدنيين. يَعني استخدام القوة النقابية والعماليّة لوقف تدفّق الأسلحة والموارد التي تغذّي المجزرة، كما فَعَل عمال موانئ في بعض المدن الإيطالية والإسبانية حين رفضوا بشجاعة تحميل سفن تَحمل أسلحة. لكنّ التضامن مع غزة بقي محصورًا في الشعارات والبيانات، بينما استمرّت الأموال والأسلحة والدّعم الدبلوماسي بالتدفّق لتمويل الإبادة. تَعكِس هذه الفجوة بين الخطاب والفعل الفَراغ الحقيقي في التضامن العالَمي مع الشعب الفلسطيني.
بالرغم من غِياب التضامن الحقيقيّ وفَشَل العالم في إيقاف الإبادة، استطاعت نساء غزة وفتياتها، في أَحلَك الظروف، أن يَخلِقن الحلول ويبنين شبكات دعم مجتمعي قيّمة في وجه التّجويع والنزوح والحصار الخانق. نظَّمن التعليم في الخيام الممزَّقة، وثَّقن جرائم الحرب بمخاطرة مباشرة على أرواحهن، وقاوَمن يوميًا بأشكال لا تُعد ولا تُحصى، في دليل حيّ على أن المقاومة والصمود ليست حكرًا على الرجال. إن قدرة النساء الفلسطينيات على البقاء والمقاومة والتّنظيم والقيادة والمبادَرة في ظلّ هذه الظروف اللاإنسانية هي شهادة على دورهن المِحوري في صمود الشعب الفلسطيني ومقاومته. لكنّ هذا الصمود، مهما كان مثيرًا للإعجاب، لا يجب أن يُستخدم كعُذر لتبرير الإهمال الدوليّ أو التنصّل من مسؤوليته عن وقف الابادة. ليس صمود نساء غزة حكاية تُنسج حولَها الشعارات، بل واقع يجب أن يُترجم إلى قرار سياسي فوريّ وملموس. لم تكن هناك امرأة واحدة على طاولة المفاوضات حين اتُّخذ قرار وقف الحرب، وهذا الغياب يَعكس عدم الاعتراف بالنساء كشريكات في المستقبَل وتقرير المصير. نساء غزة لم يُخلقن ليكنّ شاهدات على الألم فقط، بل قائدات للتحرّر. فمن دفعن ثَمن الحرب الأغلى لَهن وحدهُّن الحقّ في بناء السّلام.

د. نداء شغري
محلّلة سياسيّة وباحثة أكاديمية في السياسَة الدوليّة، باحثة-ناشطة متعدّدة اللغات متخصصة في المقاربات النسويّة للسلام والنزاع والتعبئة السياسيّة. تحمل درجة الدكتوراه في السياسة الدولية وماجستير في الصحافة والإعلام.



