غَزّاوِيَة لُبنانيّة في رام الله: مَرايا لِوَجَع المَدينَة

أنا غزّاوِيّة، لكنّي أَعيش اليوم في رام الله. لم تَفصلني المَسافة الجغرافية عن وجَع غزّة، بل زادتني ارتباطًا بها. لقد عشتُ ثلاث حروب على أرضها، كلّ حرب كانت تجربَة صمود، وكلّ تجربة تركَت في داخلي بَصمة أَلَم وقوّة. في تلك الحروب، لم أَفقِد بيتنا ولا أصدقاء طُفولتي، لكن فَقَدت معنى الأَمان والفرَح، فَقَدت جزءًا من راحتي النفسيّة مِثلي مِثل كلّ شخص عاش هذه الحروب، لكنّي تعلّمت قليلاً عن مَعنى التمسّك بالحياة والصمود.

لكنّ الحرب الأخيرة كانت مختلِفة. لم أَكُن هناك جسديًا، لكنّي كنت موجودة بروحي وقلمي، أُتابِع كلّ لحظة، وكلّ نبأ، كأنّني أَعيشها معهم. حين اندلعت حَرب الإِبادة الأخيرة، كنت بعيدة بجسدي، لكنّ قلبي بَقي هناك، مع أمي وأختي اللتين ما زالتا تَحت القصف، ومع كلّ شخص قريبًا كان أَم بعيدًا في غزّة. وما زاد الأَلَم أنّني فَقَدت بيتنا بالكامل، احترَق كما تَحترق الذّكريات، وأصبح مجرّد ذكرى في القلب.

لم يكن بيتي مجرّد جدارٍ أو سقْف، بل كان مخزَن ذكرياتي وحُلمي، وعندما رأيت الصور والفيديوهات شعرتُ بأنّني خسرْت حياتي إلى الأبد، وأنّ ذكرياتي ذهبت ولن تَعود. كنت أفكّر بالعالم الذي احتَرَق بأهله، وكأنّ الأرض فَقَدت روحها. وكلّ مرّة كنت أَرى الأبراج تُقصف، أَفتَح الفيديو وقلبي يكاد يتوقّف، أُفكّر: هل هذا البُرج كان برجَنا؟ كنت أؤمن أنّ تقبّل فقدان البيت أَحسَن من أن يُدمّر البيت إلى الأَبَد.

وَصَلَتني أيامٌ جمّدت الدّموع في عينيّ، لم أَعد قادرة على البكاء على أَهلي، ولم أستطع تقبّل فكرة موتهم أو عَدَم وجودهم في حياتي مرّة أخرى. قلبي يتمنّى أن يكون ما يَحدث حلمًا أو مجرّد خيال، لا حقيقة. في تلك اللحظات، شَعَرتُ بأنّ الزّمن توقَّف، وأنّ ثِقَل الحُزن يَجعلني أَعيش في فراغ، وكأنّ جزءًا منّي قد مات معهم.

كانت فِكرة التّهجير بالنسبة إليّ كابوسًا مخيفًا، كنتُ أهرُب منه في أحلامي، حتى أَنام لأحتَمي من إمكانية فُقدان عقلي أمام هذا الواقع. لكنْ في المقابل، كنت عند الاستيقاظ أَهرَع إلى الأخبار، أَبحث عن أيّ معلومة، لأُكمل مهمّتي المتواضعة تِجاه شعبي الغزّاوي الذي علّمني كيف أَستمِر رغم المعاناة. شكَّل هذا الرّكض وراء الخبر، وراء الحقيقة، جزءًا من مقاوَمَتي وواجبًا أَضَعه على عاتقي، لأنّني أَعلم أنّ السُّكوت أَمام الإِبادة هو جزءٌ من الهزيمة.

لمْ يكن فُقدان البيت وحدَه هو الألم، فقد خَسِرت في هذه الحرب أصدقاءَ طُفولتي وأقاربَ ومعارفَ كثيرين. لم أتصوّر أنني سأَعيش لحظة يكون فيها فقدان الناس أَقرَب إلى خَبر يوميّ. لكنّ الواقع كان أَكثر قسوة: كلّ صباح كنتُ أَفتح عينيّ على خَبر استشهاد شخص أَعرفه، صديق، قريب، أو حتى شخصٍ من بَعيد يَعرفني وأَعرفه ولو من بَعيد. بدا الأمر كما لو أنّ الموت صار جليسًا دائمًا، وأنّ الِغياب صار واقعًا ثابتًا لا مَهرب منه.

كلّ قَصف كنت أَسمَعه عَبر الأخبار وأَراه، أَشعر به في أعماقي. عرفتُ تمامًا كيف تكون رائحةُ الغبار بَعد الانفجار، وكيف يهتز القَلب عند سماع صوتِ القصف واهتزاز الأرض، وكيف يكون الأَلم حين ترى وجوهًا تَعرفها تحت الركام. رافقني هذا الشعور في كلّ لحظة من لحظات الحرب، وكأنّ الجسَد كلّه أصبح مرآة لِوَجَع المدينة. شَعَرت حينها أنّني أعيش حالة من الانفصال بين جسدٍ هنا وروحٍ هناك، روح لا تَستطيع الابتعاد عن صَوت القصف، ولا عن دمعة طفل يَبحَث عن والدَيه تحت الرّكام.

حاولتُ من بَعيد أن أكون صوتًا لأهلي وشعبي. كَتَبْت، شاركْت، ناشدْت، وأَرسلْت كلّ ما أستطيع لأوصل للعالم أن غزّة ليست حدثًا عابرًا، بل هي بَيت، وذاكرة، ووجعٌ لا ينتهي. لم أَملك دعمًا ماديًا أقدمه، وبكلّ صراحة لم أستطِع المساهَمة بمبلغ مالي، لكنّي لم أُقصّر لحظة في البَحث عن مَن يُمكنه أن يُساعد، سواء من فلسطين أو من خارج البلاد. شكل نَشر الكلمات والقصص جزءًا من ذلك الجُهد، لأنني كنت أَعلَم أن الصوت قد يكون وسيلة إنقاذ أيضًا.

مع أنّني كُنت بعيدة، كنت أتحدّث، أَشرَح، أُجادِل، وأَخوض النقاشات، رغم كُرهي للسّياسة وقلّة معرفتي بها، لكنّني أَردت إيصال الحقيقة للعالم. كنت أُريد أن أقول: إننا بَشَر، ولسنا مطالبين بالصّمود إلى هذه الدّرجة، ولَيس من المطلوب أن نَصْمت أمام الإبادة، فقط لأننا غزاويون. هَدَفي أن يَصل صوتنا، صوت غزّة، وأن يَعرِف العالم أننا هنا، وأننا نستحق أن يُسمع صوتنا.

كنتُ أَكتُب عنهم وكأنّي أكتب عن نفسي، عن طفولتي التي تَرَكتها تحت الرّكام، وعن أمي وأختي اللتين ترقَّبت رسائلهما كلّ يوم كأنّها طَوق نجاة من الغياب. جعلني فقدان الأصدقاء والأهل والبيت أَشعُر بأنّ الحرب ليست مجرّد قصف وتدمير، بل هي سَلب للإنسانية، سَلب للحياة نفسها. كلّ اسم جديد على لائحة الشهداء كان يُثقل قلبي أَكثر، ويزيد من شُعوري بالمسؤوليّة أن أكون جسرًا يوصل صوتهم.

حتى بَعد أَن خَرَجت أمي وأختي من غزّة بعد شهور من الإبادة، لم أَشعر بالراحة. فليس الأَمر مجرّد أن أحبّتي في أمان، بل سكنني الشّعور أن غزّة كلّها أهلي، وأَهلها كلّهم ما زالوا تحت القَصف والوَجَع. ليست غزة بالنسبة إلي مكانًا جغرافيًا فقط، بل هي كلّ نَبضٍ في داخلي. هي حُضن الذاكرة الذي لا يُغلق، وهي الجَرح الذي لا يلتئم.

أَشعُر أحيانًا بأنّني أَحمل غزّة في عُروقي، في صَمتي، في دموعي التي لم تتوقّف، وفي كلماتي التي تُحاول أن تكون صوتًا. أَسمَع في داخلي صدى القصف، صدى صوت أمٍ تَبحث عن طفلها، وصدى صرخة طفلٍ فَقَد بيته. وأَعرِف أنّ هذه الأصوات ستبقى معي ما حييت، ولن أَتوانى عن نقلِها إلى من هم حولي.

المُقاومة ليست فقط في السّلاح أو في الجَسد، بل في القَلب الذي لا ينكَسر، والكلمات التي تَبقى، والحياة التي تستَمر رغم الأَلم. المقاومة هي أن تبقى حيًّا رغم الموت، أن تُحافظ على إنسانيّتك وسط الدمار، وأن تَصنَع أملًا من بين الرّكام. وهي أن تقول: نَحن هنا، لَن نَنسى، لن نستسلم.

التضامن بالنسبة إليّ لم يكن خيارًا، بل واجبًا. كان طَريقتي لأَقول للعالم: ما زلتُ على قَيد الحياة بِفَضلكم يا أهل غزّة. التضامن هو الجِسر الذي يَبني الأمل، هو اليد التي تمتدّ لإنقاذ روح، هو الكلمة التي تَفتَح نافذة للحياة. أنا غزّاوِيّة في رام الله، بعيدة بالمسافة، لكنّي لم أُغادر غزّة يومًا. فهي في وَجَعي، في كلامي، وفي قلبي الذي ما زال هناك، بين البيوت التي كانت، والوُجوه التي رَحَلت، والذاكرة التي لا تموت.

الكلمة أحيانًا سلاحٌ أقوى من المَدافع، لأنّ الكلمة تَحمل الحقيقة، وتَحفظ الذاكرة، وتَزرع الأَمل. لذا كنت أَكتب، ليس لأَروي قصّة فحسب، بل لأحفَظ روح غزّة حيّة في قلوب من حولي، لأَقول للعالم: إن غزّة لَيسَت مجرّد مَكان، بل نَبض لا ينطفئ.

ليست غزّة مجرّد مَكان على الخريطة، بل هي روح تَسكُننا، ووجَع يُبقينا موصولين بها. وفي كلّ قصف، كنتُ أَعيش معهم، وكأنّي أَعود لأيام وجودي تحت سماء غزّة، لأقول لهم: أنا معكم، لا أَنساكم، وسأَبقى صوتُكم من بَعيد. وبهذا الصّوت أُريد أن أَختم، لأنّ الكلمات قد تكون أملًا، وقد تكون آخرَ جسر يَربطنا بغزة حين تُغلق الأبواب.

أنجي خرما

ناشطة غزّاوية لبنانية الأصل، وُلدتُ وعشتُ في قلب غزة من أول الانتفاضة الأولى حتى ثلاث حروب، وأَحمِل اليوم من رام الله صَدى وَجَعها وأملها.

 

Uday Mezher
رائعة أنجي، و تستحق الدعم من الجميع، إلى الأمام.
الثلاثاء 18 تشرين الثاني 2025
رأيك يهمنا