غَــزّة والصّراع العَالَميّ بَين الأَجيال: "أَصنام" تَتَحطَّم

يبدو أنّ هذه الجَولة من حَرب الإبادة على غزة قد انتهت، وأَصبَح بمقدور أهل غزة – أخيرًا – أن يَنتَحبوا ويَشتعلوا حزنًا وألمًا، وبمقدور النّاجين منهم أن يَبحثوا عن جثامين المفقودين تحت ركام بيوتهم وفي أَعماق ذواتهم. والوَيل لهذا العالم مما قد خلّفته هذه الحرب في نفوس جيل من أطفال غزة وشبابها الذين عاشوا وترَعرعوا تحت نيران هذا العدوان الهمَجيّ المدمِّر الذي كَشَف زَيف المَنطق والعَدل، وأَماط الّلثام عن المِقدار الفعلي للحِقد والكراهية والوحشية والهرطقات الإنسانية.
لم يَحدث هذا الكشْف وإماطة اللثام عن الحقيقة لأبناء غزة وبَناتها فحسب -بالرغم من أنهم هم الذين دَفعوا الثمن الباهظ لذلك- وإنما للملايين من أبناء هذا الجيل الصاعد وبَناته في مختلف أصقاع الأرض، الجيل العالَمي الذي رأى وحشيّة القصف والقتل والحرق بأمّ عينه، ولم تُسفِر جهوده الثوريّة الحثيثة عن أيّ نتيجة. أَرغَم هذا التحوُّل في نمط التّفكير وأساليب الاستنباط، أبناء هذا الجيل الفتي وبَناته – وبالأخصّ في أَقطار أوروبا وأمريكا – على إعادة النظر في حقائق التاريخ، للكشف عن مدى الزّيف والأكاذيب التي غَرَسَها "الكبار المنافقون" في عقولهم، ولأول مرّة نرى آلافًا مؤلفة من أبناء هذا الجيل وَبَناته يضَعون عددًا لانهائيًا من عَلامات الاستفهام والاستنكار والتَّشَكُّك والتساؤل حول الأحقيّة التاريخية لكيان سياسي في الوجود، ذاك الكيان السياسي الذي كانت أجيال الآباء والأجداد تحرِّم التّشكيك في أحقيّة ومصداقيّة وجوده.
إنّه جيل أجبرَته المأساة الإنسانية في غزة على أن يَكسِر الأَصفاد ويحطّم الأصنام ويَضَع علامات التساؤل والتّشكيك حيث يحب أن تكون. وأكثر ما يحرّض أبناء هذا الجيل العالمي الفتيّ وبَناته على بذل مجهودات منقطعة النّظير من أجل إصلاح أخطاء التاريخ وإحقاق العدل وإعادة الحقيقة إلى نِصابها، هو اكتشافهم لهرطقة الإنسان الغربيّ في ادعائه الحقَّ والعدل والحريّة والقيم الإنسانية النبيلة، ولازدواجية المعايير التي تمارسها أمم الغرب وأنظمة الحكم فيها في ما يتعلّق بتطبيق أسس العدالة والحرية وحقّ الشعوب في تقرير مصائرها، فما تعتبره هذه الأمَم وأنظمة الحكم أمرًا مقدسًا لا يمكن التّفريط فيه في الغرب، تعتبره لاغيًا أو غير موجود أو غير ذي شَأن في بقيّة العالم، وهي تُمارِس هذه الازدواجية في القيم والمعايير بأسلوب انتهازيّ لاإنساني بما يتّفق مع مصالحها الذاتية وما يَعود عليها بالنفع في "عالَمها المقدَّس".
لَعَلّنا يجب أن نُذكِّر أنفسنا بأنّ عَصر ما بَعد الثورة الفرنسية، التي وَضَعت أُسُس الحقّ والعدالة الإنسانية للأفراد والشعوب، هو نفسه العصر الذي شَهد تمدُّد أَسوأ أشكال الاستعمار الغربي الاستبدادي في آسيا وأفريقيا، حيث استُعبدت أمم ونُهبت خيرات ومورِسَت مختلف أشكال القهر والاضطهاد والتّعذيب، وديست حقوق البشَر – فرادى وجماعات – بأبشع الأساليب، وما سياسات الغرب في عهْد التحرّر القومي ومرحلة ما بَعد الاستعمار في "العالَم الثالث" سوى شَكل حديث، ومعاصر، وأكثر خداعًا ونفاقًا، من العقلية الاستعمارية وازدواجية القيم والمعايير نفسها.
بناءً على متابَعاتي مُجرياتِ الأمور في الأعوام الأخيرة، فإنني أَكاد أَجزم أن هذه نزعة الجيل العالميّ الشاب نحو نَمَط التفكير الثوريّ المبني على النقد اللاذع للذات والمسلَّمات القيميَّة للثقافات التي نشَأَ هذا الجيل فيها... هذه النزعة نابعة من شموليّة القَلَق وعالمية الخوف على مَصير الجنس البشري كلّه ومصير الحياة برمَّتها على وجه هذا الكوكب، ذلك المصير الذي يهدّده غباء كبار السنّ من أصحاب الحلّ والرّبط في هذا العالم، الغَباء المقترِن بالعنجهيّة وحبّ الذات وازدواجية المعايير والانتهازية الرأسمالية التي لا تعرف الرحمة ولا تأْبه للأخطار العالمية الكارثية على المدى البعيد. فلقد كُتِب على أبناء هذا الجيل الشّاب وبَناته أن يعيشوا في حقبة من التاريخ وصَلَت فيها مقدرة الإنسان على تدمير الذات ونسف مقومات الحياة على الأرض قدرًا لم يكن له مثيل في تاريخ الجنس البشري (الذي كان دومًا مصبوغًا بالدم والدمار لكنّه كان دومًا محدودًا ومختزلًا في الأضرار).
لقد أَرغَمَ العدوان الإبادي الوحشي المُنفلِت على أهل غزة أبناءَ هذا الجيل الشاب وبَناتِه على استنباط الحقيقة التي لا تحتمل الشكّ أو النّقض، وعلى الإدراك المطلق بأن الغَباء السياسي الكارثيّ لكبار السنّ الذين يسيطرون على العالم الراهن ويقرّرون مستقبَل البشريّة، هو غباء ناجم في حقيقة الأمر عن التّزاوج بين علميّة الفِعل وأسطوريّة الدّافع... التّزاوج بين تراكُم المَعرفة العلمية والتقدّم التكنولوجي الهائل على مستوى الفعل العسكري من جهة، وخزعبَلات النصوص العقائدية المقدَّسة التي تُستمَد منها الدوافع لإلغاء الآخر والعمل على سَحقِه وإبادَتِه، من الجهة الأخرى.
إنه الرّعب الشُّمولي والقَلَق العالميّ لدى الأجيال الشابّة من التهديد الفعلي غير المسبوق لمقومات بقائها وحقّها في الحياة كمن سَبَقها من البشر على وجه هذا الكوكب. وكما قالت الناشطة السويدية الشابة غريتا تونبِرغ (22 عامًا): "أنا لستُ خائفة من إسرائيل. أنا خائِفة من هذا العالَم الذي يبدو أنه فقد كلّ مشاعره الإنسانية". ليست الحشود المليونية التي شهدناها مؤخرًا ونشهدها الآن في مختلَف أنحاء العالم، غربه وشرقه، فقط لدعم أهل غزة المنكوبين وتأييد الشعب الفلسطيني المَظلوم، وإنّما هي في الأساس حشود مليونية عالميّة لجيل مَرعوب على مَصيره ومَصير البشريّة، وقلق حدّ المَوت على احتمالات بقائه على هذا الكوكب... إنها حُشود عالميّة لجيل يحتج سلميًا على سيطرة الغَباء والعنصريّة والغيبيّات العقائديّة على سياسات العالم "المتحضّر"، وعلى ازدواجية القِيَم والمعايير التي يمارسها الغَرب "القويّ" على شعوب العالم.
لعلّ البَعض يدّعي أن هؤلاء الشباب الواعين المستَنيرين سيصبحون بسوء مَن سبقوهم من رجال السياسة بمجرد وصولهم إلى سدّة الحكم. إن جوابي على هذا الادّعاء سلبيّ، وهذا ما يُبقي نافذة مفتوحة للأمل. فالحديث هنا ليس عن مجرّد تغيُّر، أو تطوُّر، أو تحوّل، أو إعادة توجيه أو تصحيح، إنّما هو حديث عن تحوّل ثوري جدّي في نمط التفكير واستنباط النتائج من المقدّمات، والصّدق في تناول حقائق التاريخ، في أَصعَب مرحلة من مراحل التاريخ وأشَدَّها حلكة. إنه تحوُّل ثَوري جذريّ بين الجيل الذاهب الذي يُريد أن يَأخُذ العالم كلّه معه، والجيل الصاعد الذي يريد أن يُبقي لنفسه موطئ قدم فيه.
إنّه صراع تنافسيّ بين ما يمثله دونالد ترامب، الرئيس الأمريكي الأرعَن ابن الثامنة والسبعين، الذي رشّحه لجائزة نوبل للسلام بنيامين نتنياهو وحكومته، وبَين ما تمثِّله غريتا تونبِرغ، الناشطة السويدية/العالمية الشابّة ابنة الثانية والعشرين، التي رشّحها لجائزة نوبل للسلام الملايين من الصبايا والشباب في مختلف أنحاء العالم. لعلّ ترامب أو أَحَد أمثاله يفوز على غريتا تونبِرغ الآن أو في أحد الأعوام القريبة، لكن ذلك بالتأكيد لن يحدُث بعد عقد أو عقدين أو قرن أو قرنين من الزمن، فالعالم بعد السابع من أكتوبر عام 2023 ليس، ولن يكون، كالعالَم الذي كان سائدًا قبل هذا التاريخ.
الفرق الذي نتحدّث عنه هنا هو في العقليّة والتوجُّه ونمط التفكير وليس في عدد سنوات العمر، فَكَم من صغار سنّ في العالم العربي، وفي العالَم الأَوسَع، ينتمون إلى جيل العجائز وكبار السنّ من حيث العقليّة والتوجُّه ونمَط التفكير.
لقد دفع أهل غزة الفلسطينيون الثمن باهظًا جدًا بأرواحهم وحيواتهم وممتلكاتهم، لكن يكفيهم شرفًا وفخرًا أنهم أعادوا التاريخ إلى مساره الصحيح، مسار الحقّ والعدل والحرية والعيش الكريم، وفتحوا أعيُن العالم على الأخطار الفعلية التي تحيق بمصير البشر والبشريّة.

د. مصلح كناعنة
باحث ومحاضر في مجالي علم الإنسان وعلم النفس. حاصل على شهادة الدكتوراه بامتياز في علم الإنسان من جامعة بيرغن في النرويج وله خمسة كتب وأكثر من 30 مقالة بحثية منشورة في مجلات عربية وعالمية



