الحَرب المُستَمرّة في الضّفة الغَربِيّة: دَولَتان أَو "البَلْقَنَة"!

في ظِلّ حَرب الإبادة على غزة، كانَت الضفة الغربية المحتلّة تَشهَد -ولا تزال- حربًا خطيرة يَقودها ويُشرف عليها وزير المالية المستوطِن باتسلئيل سموتريتش مُستَغلًا توجّه أنظار العالَم للقطاع، والموارد الكثيرة المتوفّرة بيديه للبدء بتطبيق "نظريّة الحَسم"، خاصّة في ما يتعلّق بفَرض حقائق على الأرض، بالسّلب والنّهب والتّهويد وزيادة 120 بؤرة استيطانية جديدة على أراضي تجمّعات سكانيّة فلسطينية تمّ تهجير سكانها.
في تحقيق واسِع نَشَرته صَحيفة "هآرتس"(24.10.2025) يتمّ استعراض منهجيّة التّهجير والسلب والنهب للاستيلاء على أكبر مساحة ممكنة من الضفة، واغتيال فكرة "تسوية الدولتين" عَبر تَقطيع أوصالها. وتُضيف صحيفة "يديعوت أحرونوت" (27.10.2025) هدفًا آخرَ بالنسبة لنتنياهو، هو محاولة تَحسين شعبيّته وحظوظ حزبه الذي لا تَبتَسم له استطلاعات الرّأي على التوالي.
طِبقًا لمُعطَيات الصحيفة العبريّة فإنه منذ تأليف الحكومة وحتى الآن، تمّ تَرويج نحو 48 ألف وحدة سكنيّة وراء "الخط الأخضر" وفقًا للتّقديرات، وحتى نهاية العام، ستدفع الحكومة بخطط بناءٍ تتجاوز الخمسين ألفَ وحدة سكنيّة خلال فترة ولايتها. ولإدراك مدى استثنائيّة هذا الرقم: فقَبل ولاية هذه الحكومة، كانت سنة 2020 الأكثر ازدهارًا، بالنسبة إلى المستوطنين، إذ تم حينها ترويج أكثر من 12 ألف وحدة سكنيّة، وكان ذلك العام الأخير من الولاية الرئاسيّة الأولى لدونالد ترامب في الولايات المتحدة. لكنّ المشكلة أَوسَع من سموتريتش وأَكبَر وأَخطر منه، لأنّ معظم الإسرائيليين يؤيّدون هذا السّطو المسلّح على الأرض الفلسطينية، ولأن أحزابَهم ائتلافًا ومعارضة لا تختلف عن بعضها البَعض من هذه الناحية.
يؤكّد استطلاع واسع لـ "معهد دراسات الأمن القومي" في جامعة تل أبيب (20.10.2025) ما كَشَفت عنه استطلاعات أُخرى بأن أَكثَر من ثلثيّ الإسرائيليين اليوم يَنظُرون نَظرةً سلبيّة للسلطة الفلسطينية، ويعارِضون تسوية الدّولتين معها أو مع غيرها، على مبدأ أن دولة فلسطينية اليوم هي عبارة عن هديّة لـ"حركة المقاومة الإسلامية" (حماس) بعد هجوم "طوفان الأقصى".
بَيد أنّ الدراسات والاستطلاعات المتَتالية تؤكّد أن موقف الإسرائيليين هذا، هو موقفهم ذاته منذ سنوات وقَبل حرب الإبادة على غزة بكَثير، خاصّة منذ اندلاع الانتفاضة الثانية التي سَعَت إسرائيل لإخمادها بعُنف مُفرِط، وشَهِدت مِن جُملة ما شَهدته عمليّات تفجير داخل المدن الإسرائيلية.
هناك من يَرى أنّ هذه النظرة الإسرائيلية العامّة للسلطة الفلسطينية موجودة قَبل الانتفاضة الثانيّة، بل هي قائمة منذ قيام هذه الكيانيّة الفلسطينية عقب اتّفاق أوسلو التي قَطَعَتها ثلاث رصاصات إرهابي يهودي، هو يغئال عامير، قَتَلَت رئيس حكومة الاحتلال إسحق رابين لمجرّد توقيعه اتّفاق تسوية معها.
اليوم، تَكفي نظرَة واحدة للبرلمان الإسرائيلي (الكنيست) المنتخَب مِن الإسرائيليين، للتّدليل على فقدان الاختلاف بين الأحزاب الصهيونيّة في المَوقف مِن السّلطة الفلسطينية في السّنوات الأخيرة، بل إنّ رؤساء المعارَضة الإسرائيلية يَتَحاشون مجرّد الحديث مع رئيس السلطة الفلسطينية بالهاتف أو بالّلقاء معه. مُنذ سنوات طويلة، تفتَقد الحَلبة السياسية الإسرائيلية إلى اختلافات وخلافات ونقاشات مبدئيّة حول الاحتلال واستمرار سَلب حقوق الشعب الفلسطيني وحَول تسوية الصراع، بل هناك إجماع بين أحزاب الائتلاف والمعارَضَة على رفض فكرة تَسوية الدولتين عدا حزب "الديموقراطيين" الذي يتحدّث أحيانًا عنها، وكافتهم يتهمّون السلطة الفلسطينية بـ "تشجيع الإرهاب" من خلال "رواتب الأسرى" ومناهج التعليم.
مَن يَحتاج للإصلاح والاستشفاء؟
هذا رَغم أنّ مَن يحتاج للإصلاح والاستشفاء من أمراض العنصريّة ودعم الإرهاب هي المؤسسة الإسرائيلية، فـمناهج التعليم الإسرائيلية ملوثّة بالعنصريّة وبشَيطَنَة العرب والفلسطينيين وبِنَزع صفتهم الإنسانيّة بشَكل فظّ، كما كشف تحقيق "القدس العربي" أيضًا، في الشهر الماضي.
كما أن أغلبية الإسرائيليين أيّدوا بأشكال مختلفة حرب الإبادة على غزة، وقال 80% منهم إنّهم يؤيّدون تهجير الغزيّين، بل قال 56% منهم إنّهم يؤيدّون تهجير الفلسطينيين في إسرائيل أيضًا.
يتجلّى دعم الإرهاب في الجانب الإسرائيلي بـدَعم حرب المستوطنين على الضفة الغربية المتصاعِدة منذ اندلاع الحرب على غزة، فقد تمّت مضاعَفَة عدد البؤر الاستيطانية داخل الضفة الغربية من خلال تهجير عشرات التجمّعات السكنية الفلسطينية الريفيّة وسلب مقدَّراتها ونهبها بدعم الجيش، وفق ما أكّده أيضًا تحقيق صحيفة "هآرتس" العبرية يوم الجمعة (24.10.2025). وآخر ضحايا هذه الحرب التي تَتواصل بدعم أغلبية الإسرائيليين بالتّجاهُل والصّمت يتمثّل في قرية مخماس قضاء القدس، حيث تعرضّت لقطع أشجار زيتون وإقامة بؤرة استيطانية على أراضيها من مستوطنين اعتدوا على السيارات والبيوت والمشارِكين في قطيف الزيتون.
تكشف صحيفة "هآرتس" يوم الاثنين (27.10.2025) أنّ عدد شكاوى الفلسطينيين المقدَّمة لشرطة الاحتلال وجيشه في ازدياد، أمّا ملفات التّحقيق فيَنخَفض تِعدادها. في هذا المضمار، يوضِح الصحافي والناقد التلفزيوني الإسرائيلي عيناف شيف أنّ اعتداءات المستوطنين على الفلسطينيين يوميًا تتمّ بدعم من الجيش الذي يُغمِض عيونه ويتجاهل العُنف اليهودي. بل يؤكّد عيناف في مقال بعنوان "حملة الضمّ العنيف" المنشور في صحيفة "يديعوت أحرونوت" في اليوم نفسه أن جرائم المستوطنين داخل الضفة الغربية تتمّ بدَعم جهاز كامل متكامل من المؤسسّة السياسية الإسرائيلية، ائتلافًا ومعارضة.
قَبل السّابع من أكتوبر
يَعكس هذه الدّعم لـجرائم المستوطنين الموقفَ من السلطة الفلسطينية، وهو عمليًّا الموقف من الدولة الفلسطينية المستقلة التي تُعارضها أغلبية الإسرائيليين قَبْل اندلاع الحرب المتوحشّة على غزة. يتجلىّ ذلك بوضوح في غياب القضية الفلسطينية من بَرامج الأحزاب الإسرائيلية على اختلافها، ومِن الحملات الانتخابيّة في العقدين الأخيرين لصالح قضايا داخلية وإقليمية.
تَستمرّ هذه الحالة لدى الأحزاب الإسرائيلية المنقَسِمة اليوم على نتنياهو أكثر مما هو على المَوقف من السلطة الفلسطينية أو القضية الفلسطينية المغيبّة عمدًا رغم تحذيرات إسرائيلية من أنّ التَّجاهل يَعني إرجاء انفجار قنبلة موقوتة، وينمّ عن خلل إستراتيجي كما يقول بشَكل منهجيّ منذ سنوات على سبيل المثال المحاضر في جامعة تل أبيب دكتور ميخائيل ميليشتاين، وهو رئيس وحدة الدراسات سابقًا في الاستخبارات العسكرية.
في واحدٍ من مقالاته يَعود للعام 2022، أوضَح ميليشتاين أن برامج الأحزاب الإسرائيليّة تَعكس تَغيير مركز الاهتمام الإسرائيلي، وتجاهُلِه الشّأنَ الفلسطيني، وتابع محذرًّا: "لا تستطيع إسرائيل الهُروب من القضية الفلسطينية، وفي حال واصلنا تجاهُلَها سنضّطر لحسم أَمرِنا وقرارنا من نُقطة ضَعف وتحت الضّغط وموقف إستراتيجي متدنٍّ". ويقول إنه على إسرائيل الاختيار بين الخيار السيء والخيار الأسوأ الذي يَعني تحوّلها لـجنوب أفريقيا جديدة مما يُعرضها للمزيد من الضُغوط الدولية ويُحوّلها لدولة مَنبوذة بالكامل.
خَوف مِن بَلْقَنَة الصّراع
يحذّر ميليشتاين من أنّ "الخيار الأسوأ " هو نتيجة استمرار حالة الاحتلال ونظام الفصل العنصريّ، ويقول إنّه من شأنه أن يؤدّي لاندلاع أعمال عُنف على الطريقة البَلقانيّة، صِراع قَديم بين مجموعَتين سكّانيتين يَصعب عليهما التخلّص منه ومن رواسبه من أجل العيش في كيان سياسي مشترك.
أمّا "الخيار السيء" فهو اتفاق تَسوية مع السلطة الفلسطينية، تسوية دولتين متجاورَتين منفَصِلتين بدون سلام وأُخوّة، لكن مع حدّ قاطِع يكون أساسًا لـ "وضع راهن" طويل نسبيًّا يَحول دون اختلاط مفخّخ مَشحون بين شعبين.




