تَضامُن الضِفّة و"الدّاخل": مُحاوَلَة لِفَهْم "التَّخَلّي"!

بَعد انسحاب الاحتلال من قطاع غزة عام 2005، وخلال أعوام الحِصار منذ 2007، كانت درجة الاحتكاك الأعلى بين الفلسطينيين والإسرائيليين في مدينة القدس والداخل والضفّة الغربية، وكانت اعتداءات الاحتلال على الأنفُس والممتلَكات والمقدّسات تتزايد وبصورٍ متنوّعة حسب الحيّز الجغرافي، والإطار القانونيّ المفروض على الفلسطينيين، ورغم أنّ كلّ هذه الاعتداءات لا تقارَن نتائجُها بِحَرب واحدة عاشها أهالي القطاع منذ تلك الأعوام، ولا بالحصار القاسي عليهم، بيد أنّ أهالي الضفة الغربية بما فيها القدس، كانوا يولّون وجوهَهُم قِبل القطاع كلّما أَصابَهم من الاحتلال أَذى، وتَصِل مناجاتُهم حدّ الصُراخ: "يا غزّة يالله، مِنْ شان الله".
أمّا وقد دارَت الدنيا، واستمرت اعتداءات الإسرائيليين بجيشهم ومستوطنيهم وقراراتهم وقوانينهم على فلسطينيي الداخل والضفة بما فيها القدس، فيما لَم تكُن في غزة مجرّد اعتداءات، فقد عاثوا فيها فسادًا وسَفَكوا فيها الدماء، ولم يبقوا حجرًا على حجر، فهي حرب الإبادة والتّطهير العرقي منذ أكتوبر 2023، لم يَعُد بمقدور أهالي غزة أن يَسمعوا أنين الضفة والقدس، بيد أنّ أهالي الضفة والقدس والداخل كانوا على درايَة بكلّ ما حلّ في القطاع من قصف عنيف يسوّي المنطقة المقصوفة بالأرض على مدار الساعة وعلى الهواء مباشرة، وكان الطبيعيّ أن ينتَظِر أهل غزة من بقيّة الفلسطينيين أينما تواجَدوا أن يُحدِثوا فارقًا في المشهد، إذ ربما كان لتحرّكهم الشعبي المفترَض أن يخفّف الضغط على القطاع، هذا ما لم يَحدث.
انطلاقًا من هذه الحقيقة الصّعبة على أهل القطاع، لا بدّ من محاولة فَهم هذه الاستجابة الضّعيفة والتّفاعل المحدود مع كلّ ما جرى في القطاع، محاولة تتجاوز الاتهام للشارع بالتّقصير أو التّخاذل، وتَرفض فكرة جَلد عموم النّاس بناءً على هذا الاهتمام، وتَنطَلق من ثلاثة أفكار:
الأولى: أنّ الشّوراع لا تتحرّك دون قيادة.
الثانية: أنّ الحركة لا تستَمر دون تنظيم.
الثالثة: أنّ الاحتلال يَعي الأولى والثانية ويتحرّك على هذا الأساس.
إنّ جزءًا مما يفسّر ضَعف التضامن الفعليّ والمؤثرّ من الضفة والداخل مع القطاع، في المراحل الأولى من الحرب هو ما سَيطر على أذهان الناس نتاجًا لتاريخ غزة في الصمود، ونتاجًا لما حصل يوم السابع من أكتوبر، من أنّ غزة قادرة على المواجهة وعصيّة على الانكسار، بيد أنّ مثل هذا التفكير لم يَعُد مما يقْبله عقل بعد مضيّ أسابيع على الحرب وما أسفَرَت عنه من خسائر فادحة في كلّ الجوانب، وقد اقتنع الناس أنّ ثمّة شيئًا مختلفًا في هذه الحرب، وأنّ استمرار فصائل المقاومة في التحدّي، لا يَعني بالضرورة قُدرتها على صدّ الاحتلال عن مخططاته.
بعبارات أخرى؛ أيقن الجميع أنّه لا بدّ من وجود عوامل وفواعل أخرى كي يتغيّر المَشهَد، تحدّثت فصائل المقاومة بلسان واضح مطالبة بتضامن فعّال، وباتت كلّ التحليلات تُجمع على أنّ الحلّ لم يَعد يرتبط بغزة فحسب، إذ لا بدّ من تدخّلٍ ما. آلة البطش الإسرائيلية التي طالَت القطاع، سُمع صوتها في بقية فلسطين على أنّها مسألة وقت حتى يَفرَغ الاحتلال من غزة فينقضّ على بقيّة المناطق، ورغم سلامة هذا الاعتقاد، فإنّ ما بُنِي عليه من سلوك كان مغايرًا لثقافة الشارع الفلسطيني السائدة منذ الانتفاضة الفلسطينية الأولى على أقلّ تقدير، فحالة الاستكانة، وانتظار الفرج من الخارج قد نقلت أهالي الضفة والداخل من متضامنين محتَمَلين، إلى شرائح بانتظار التضامن من الخارج.
بالعودة إلى النقاط الثلاث السابقة؛ فإنّ معضلة القيادة تمثّلت في اثنتين، أما الأولى، فوجود قيادات في المناطق كافة أَقحَمَت الحزبية والفئوية والنفعيّة في حساباتها، ولم تقُم بأيّ خطوة من أجل تحريك الشارع سلميًا وبشكل واسع وفعّال لأنّها اعتبرت ما يَجري في غزة يخصّ "حماس" وحدها، ورغم أنّ الشعب الفلسطيني كان يدفع الثمن كما "حماس"، فإن صَمْت هذه القيادات من تيارات سياسية عدّة، ساهم في فتور الشارع، والصّمت هنا ليس في الكفّ عن التصريح ضد إسرائيل واستنكار فعلها، فهذا مما قد تمّ، إنّما الصمت في ابتلاع الألسنة القادرة على إيقاظ الناس وإحياء دورهم. ليس من اليَسير تفسير كلّ تفاصيل هذا المشهد المعقّد في بضعة سطور متاحة في هذا المقال، لكن يمكن القول دون عبارات منمقة: إنّ قيادات عدّة لم تكن أمينة على قواعدها الشعبية.
فيما تمثَّلت المعضلة الثانية في كون إسرائيل قد قامت وبعد أقل من 24 ساعة على عمليات السابع من أكتوبر بحملة اعتقالات واسعة في الضفة والقدس طالت شريحة واسعة ممن تظنّ إسرائيل أنهم قادرون على تحريك الشارع، أصحاب التّجارب السابقة، وأصحاب الرأي، وأبناء فصائل المقاومة، والمقرّبون منهم، والمتعاطفون معهم، وَصَلهم "الشاباك" الإسرائيلي، وأَخرَجَهم من المشهد، وإن كان الاعتقال هو الصورة الأبرز في الضفة والقدس، فإنّ التّهديد والتّرهيب كان حاضرًا وفعالًا في الداخل الفلسطيني ضدّ أولئك الذين لديهم الاستعداد للتأثير.
من العوامل الأخرى التي حالَت دون وجود حركة شعبية متضامِنة وعلى نطاق واسع انطلاقًا من الضفة والقدس والداخل، أنّ الفصائل الفلسطينية التي مارست عمليات السابع من أكتوبر، شِبْه مجتثَّة تنظيميًا في الضفة الغربية والقدس بفعل سنوات طويلة من العمل على تفكيكها من الاحتلال الإسرائيلي والسلطة الفلسطينية، وحتى لو توفّرت بعض القيادات القادرة على تحريك الناس للاحتجاج والاعتصام، وهو ما حصل فعلًا، إذ خرجت مسيرات في أكثر من منطقة، فإنّ استمرار الحراك لا يعتمد فقط على قائد محفّز، ستخفيه إسرائيل بعد أول ظهور له، وإنما على تنظيم متماسِك، يمكن أن يدفع هذا الحراك إلى الأمام، وهو أمر افتقدته الضفة الغربية والقدس والداخل، فالتنظيمات الموجودة وذات القدرة على تحريك الشارع باستمرار وتحديدًا حركة "فتح" في الضفة والقدس لم تَقْبل أن تخوض هذه الغمار تحت مسوّغات درء الأذى عن الضفة، وهو مسوّغ رغم رواجه في أوساط عدّة، ينتهِك أول ما ينتهك وحدة الشعب الفلسطيني، والتيارات السياسية في الدّاخل نأت بنفسها عن كلّ ما يجري عمليًا.
وعليه؛ إنّ فتور حركة الشعب لا يُلام عليه عُموم الناس، إنّما من ارتضى لنفسه موقِع القيادة فيه، وإنّ القيادات التي انفصلت عن آلام شعبها بكامل إرادتها، ربما تستطيع التحكّم في الشارع فترات طويلة، لكن من المُحال أن تتحكّم فيه إلى ما لا نهاية، وإن من نافلة القول الإشارة إلى أن الشوارع تَلِد قيادات وتلفُظ أخرى، وإن التنظيمات السياسية وإن تمكّنت فهي ليست قدرًا، فيما حركة الشعوب وإن تأخّرت كانت حتمًا مقضيًا.




