المجتمع المَدَني في "الدّاخِل": عَن التّخْويفُ وكَسْرُ دائِرَتِه

تتميّز جمعيات "التّغيير المجتمعي" أو "المجتمَع المَدني" بفكرها المجتمعيّ والسياسي المبنيّ بشكل عام على قيم ومبادئ حقوق الفرد والإنسان وحريّة الانتماء الوطني والقومي، وتَشمل حريّة الكلام والتّعبير والتعدّدية الفكرية والعدالة الاجتماعية.

اعتمادًا على هذه القيم والمبادئ تُحاول مؤسّسات المجتمع المدنيّ جاهِدةً ممارسة فعّالياتها ونشاطاتها العمليّة ”Practices & Praxis” التي تتمثّل في الأَساس بالتّنظيم والتّحشيد الجماهيري وتنظيم مَجموعات ناشطة، والمرافَعة أَمام المؤسَّسات الرسميّة من أَجْل نَيل الاستحقاقات والحُقوق المدنيّة خاصة، إضافة إلى تعزيز الانتماء المجتمعي أو الانتماء للمجتمَع والوطني والقومي، والسّعي من خِلاله ومن خلال فكرٍ وخطاب "تحرّري"- إلى حدّ ما- لكي لا يحصُل تضارُب مبدئيّ وعمليّ بين هذا الطّرح والواقع الاجتماعي وتحديّاته، والتي تُصبِح تحدّيات الجمعيات الناشطة.

بشَكل عامّ، إن عَدَد الجمعيات الفلسطينية المسجّلة والناشِطة قليلٌ جدًّا ولا تتعدّى نسبتها الـ 7% من عَدَد الجمعيات الإسرائيلية المسجَّلة، ولهذه الحَقيقَة أَسباب عديدة لا مَجال لتفصيلها الآن. بالإضافة لذلك "إنّ تطُّور فَضاء مدني يتكوّن من منظَّمات تنظيم مجتمعيّ ومبادَرات شعبيّة غير مُمأسَسَة، تعمل باسم المواطنين لدَفع قضايا على جدول الأَعمال مقابِل الدولة، يشكّل ظاهِرة اجتماعية وسياسيّة ويُثير أسئلة عديدة حَول دورها وأنماط عمَلها وغيره. هذا، فإنّه يوجَد توافُق واضح على أهميّة وجودها وقوّة تأثيرها".[1]

حاوَلَت الجمعيات الفلسطينيّة -كَمَا الأفراد، وبسبب الملاحَقة السياسيّة والمخابراتيّة منذ بدء حرب الإبادة على شعبنا في غزّة-جاهدةً مناهضَة هذه الحرب بأساليب سلميّة وباحتجاج كلاميّ ومكتوب، لكنّ القَمع والملاحَقات والاعتقالات حالَت دون توسّع هذه الاعتراضات وحدّدتها، بل جمَّدتها بشكل شِبه تام.

كانَ جليًّا أنّ حرب الإبادة شَمِلت وما زالَت جميع الفلسطينيّين في جميع أماكن وجودهم كأفراد ومجموعات ومؤسّسات. ومِنَ الجَدير ذِكرُه بأنّ الجمعيات الحقوقيّة خاصة، تمكّنت بالتّعاون مع جمعيات مدنيّة أخرى ونَجَحَت في كتابة ونَشر مقالات تحليليّة تَطرَح حقائق مؤكَّدة وتوجيهها إلى جهات حقوقيّة على المُستوى العالَمي.

يَجدُر التّنويه إلى أنه اعتبارًا مِن السنة الثانية للحرب، وبَعد الخُروج إلى حدّ ما من صَدمة الحرب وأَهوالها والخَوف والتّخويف المُمَنهَج، بدأت فعّاليات احتجاجية جديدة، وتَشمل مظاهَرات على الصّعيد المجتمَعيبقيادة "لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية" التي شَمَلت ناشطين/ت من مؤسَّسات المجتمع المدنيّ إضافة لممثّلي الأحزاب والحركات السياسية، رغم محدوديّة الخطاب والشعارات وعدد الحُشود بسبب تَقييدات جهاز الشرطة وتهديداته.

هذا، وقد بَرَز دَور قياديّ ورياديّ بصَدد الحرب وسياسات التّخويف والقَمع المُمَنهج، فَبَعض الجمعيّات وخاصة "جمعية نساء ضدّ العنف" بادَرَت ونظّمت وقفةً أسبوعية بشكل دائم تُعارِض حرب الإبادة، انضمّ إليها ناشطون/ات وطواقم جمعيّات العمل الأهلي، بحيث غَدَت هذه الوَقفة الأسبوعية حافزًا ونبراسًا لكَسر دائِرة الخَوف.

بالإضافة لذلك، ومن الأهميّة بمكان، الحديث عن نَشاطات وفعاليّات بقيادة حِراكات شعبيّة محليّة (تُعتبر بنهجها إطارًا تنظيميًّا مدنيًّا غير رسميّ) والفاعلة على المستوى المحلّي في بعض القرى والمدن وبشكل مستَدام، الأبرَز من بينها كان "الحِراك الحيفاوي الشبابي" الذي لم تحدّ سياسات التّرهيب والقمع والاعتقال من استمرار وقَفَاته الأسبوعية.

إنّ إِحدى الفعاليّات المهمّة هي استقطاب مؤسَّسات حقوقيّة على الصّعيد العالَمي ولَفْت انتباهها، وقد تمّ ذلك بشكل فرديّ بواسطة موظَّفين أو متطوّعين ضمن جمعيات المجتمَع المدنيّ.

 هذا غَيض مِن فَيضِ أَمثِلة رَغم محدوديّتها، حَمَلت من ناحية معانيَ ومفاهيم مناهضة للسّياسات المذكورة على صَعيد جميع المَناطق الفلسطينية وخاصة غزة، ومن ناحية أخرى شكّلت عاملًا مُؤسَّسًا ومؤثرًا على مجتمعنا الفلسطيني في الدّاخل عامة، وهنا يَكمُن الدّور التوعويّ المجتَمَعي.

بهدف تعزيز أَثَر العَمَل على الجمعيات نفسها وعلى جماهيرِ هَدَفِها والجمهورَ عامّة، بادَرَت مجموعة من الجمعيّات الناشِطة إلى إقامَة إطار جامَع، ألا وهو "شَبَكة جمعيات فلسطينية في الداخل الفلسطيني".

لم تأت الشّبكة كإطار رسميّ مسجّل، لكّنها جاءَت من قرار، وإرادة، كاستراتيجية و/أو وسيلةً تَهدف إلى:

  •    حَشد القدُرات والطّاقات البشرية والماليّة والمقدَّرات لإنجاز عمل/ مهمة/ قضية مُشتركة بشكلٍ أَنجَع.

  •     زيادة الشُّعور بالقوة.

  •     زيادة إمكانيّة التأثير الجماهيريّ على مُتّخذي القرارات-إحداث تغيير أشمل/ أكبر.

هناك أسباب عدةّ تَجعل القيادة التشاركيّة في غايّة الأهميّة، فَهيَ:

  •        تضمن استدامة الحَملة والقضيّة دون أن يَعتَمد عَمَلها على وجود قائدٍ واحدٍ يُرهن العمل بِه.

  •       تَحمي الحُماة أو الفِرَق من الأنظمة الديكتاتوريّة التي تَفرض سيطرتها وسلطَتَها على الأفراد ورغباتهم متجاهلةً مصير الأغلبيّة.

  •       مِنها تَنبُع المسؤوليّة التشاركيّة التي توّزع حِملَ مسؤوليّة التّغيير وعِبأهُ على الجميع، وحينها لا يَكون النجاح مقترنًا بشخصٍ واحدٍ دون سواه، وربما يؤثّر غياب المسؤوليّة الجماعيّة في التّغيير المَنشود.

تَسعى الشَّبكة لتدعيم مَسارات التّعاون والتَّكاتُف بين مؤسسات المجتمع المدني لزيادة قوّتها وأَثَر عَمَلها على قِطاعات متنوعة تتعلّق بالجمهور الفلسطيني ضِمن مسارات التّغيير المجتَمَعي، وتوحيد مواقف وفعاليّات سياسية مشترَكَة من حيث الخطاب والمضمون، ومحاوَلَة صدّ المُلاحَقات السياسية القمعيّة.[2]

بَعض التحدّيات المُهم ذكرها لخطورتها:

  •       محاولة الحكومة سنّ قانون جديد يهدّد وجود جمعيّات المجتمع المدنيّ الحقوقيّة، وأخرى جماهيرية وناشطة ضدّ سياسات الحكومة العُنصريّة والقمعيّة. ينصّ اقتراح القانون على اقتصاص 80% من ميزانية الجمعيّات التي تتلقّى دعمًا ماليًّا من حكومات على الصعيد العالَمي. على سبيل المثال "الاتحاد الأوروبي"، سفارات الدول وغيرها. جَميعُنا يُدرِك بأن المنَح المتوفِّرة من صناديق داعمة أوروبية وأمريكية تعتَمد في جُزء من ميزانياتها على دَعم حكومي. وقد قامت وما زالت الشبكة وجمعيات أخرى تقوم بالاعتراض على سنّ هذا القانون.

  •       توجيه العديد من الأطر الداعمة دعمَها لقضايا تتعلّق بواقع الطوارئ الذي نعيشه كمجتمع فلسطيني في الداخل منذ بداية حرب الإبادة ومضاعفاتها، وهذا يعني توفير خَدَمات ولَيس تحشيدًا وتغييرًا مجتمعيًّا ومرافعة ضدّ سياسات الحكومة. والأَنكى مِن هذا أن بَعض هذه الأطر الداعمة مادّيًّا غيّرت سياساتها العامة بشكل لا "يتضارَب" -مِن وجهة نظرها- مع الخطاب الإسرائيلي الاحتلاليّ والاستيطاني، ما ضيّق الخِناق على إمكانية استمرار الجمعيات في مسارات عملها، وخاصة المناهِضة للسياسات.

  •       سياسَة تكميم الأفواه والقَمع الفرديّ والجَماعيّ التي تم التطرّق إليها سابقًا.

  •       تحدّيات مجتمعيّة متأثِّرة من واقع التّرهيب تعبّر عنها فئات امتنعت عن أخذ دور ناشط وسياسي لمواجَهَة سياسات القمع والحرب. يُضاف إلى ذلك واقع ازدياد العُنف والجريمة في المجتمع الفلسطيني، الموجّه من السُّلطات خاصة الشرطة حيث أثّر ذلك على تحديد أولويّات الجمهور.

  •       تحدّ داخلي- مجتمعي وسياسي على المستوى الفلسطيني عامة: إذ أن أَحَد أهدافنا رَفع الوعي المجتمعي عامة وبضمنها رواية قضيّة الانتماء الوطني وأهمية النضال ضدّ القمع والظُلم وإرهاب الدولة، يبقى سؤال التحدّي مفتوحًا: "كيف علينا عمل ذلك في واقع الخَوف والتّرهيب المجتمعي والسياسي؟".


[1] بروفسور امل جمال، المجتمع المدني العربي في اسرائيل: نخب جديدة، راس مال وتحد لهيكل القوة،قضايا اسرائيلية ، جامعة تل ابيب ، 2019

[2]  مؤسسة أهل، "دليل التطوع بالمجتمع العربي"، عمان، 2021.

الصورة: للزميل جواد العمري.

فتحي مرشود

مستشار تنظيمي ومدير عام جمعية التطوير الاجتماعي في حيفا.

رأيك يهمنا