روسيا في اختبار غَزّة: حِساباتُ بوتين وإرثُ "حِذاء خروتشوف"

تُعيدُ كلّ حربٍ على فلسطين طَرحَ السؤال ذاته: أَينَ روسيا؟ يتذكّر الكثيرون خروتشوف وهو يَطرُق بحذائه طاولة الأمم المتحدة احتجاجًا على العدوان الثلاثي عام 1956، فيَستحضرون هيبة الاتحاد السوفياتي التي كانت تُسمِع العالَم صوت العدالة. لكنّ روسيا اليوم ليست ذلك الاتحاد، والمقارَنة بين العَهدين غير واقعية. تَنبع رَغبة العرب في دَور روسي أكبر من الحنين إلى الماضي، وتوقٍ مشروع لداعمٍ قويّ للحقّ الفلسطيني، على غرار الدعم الأمريكي غير المَشروط لإسرائيل — دعم لا يَخدِم دولة، بل يخدم مشروعًا هيمنيًّا في المنطقة والعالم.

لم يَعُد العالَم مسرحًا أيديولوجيًّا بسيطًا. تخوض روسيا اليوم معركة وجوديّة على حدودها الغربية، وتتعرّض لحصار اقتصادي وإعلامي غير مسبوق. مع ذلك، لم تَغِب عن فلسطين، بل حَضَرت بطريقتها: حضورٌ هادئ، مَحسوب، مبدئيّ، لا يعتمد على الضجيج، بل على العُمق الاستراتيجي والأخلاقي.

اتهام روسيا بالغياب قراءَة سطحيّة. فموسكو تَعمل ضمن رؤية طويلة الأمد، تُوازن فيها بين جبهة أوكرانيا وثوابت سياسَتها الخارجية، خصوصًا في الشرق الأوسط، حيث تحافِظ على علاقات مع جميع الأطراف دون انخراط في استقطاب عسكري مباشر. لقد اختارت منطق القوة الهادئة، والتّأثير عبر الدبلوماسية والقانون الدولي، لا عبر التّصعيد العاطفي.

أقوى مواقف روسيا لم تأتِ بتهديدات، بل بتشبيهٍ تاريخي عميق. حين قال بوتين في أكتوبر 2023: "حصار غزة يذكّرنا بحصار لينينغراد"، لم يكن يُطلق عبارة عابرة، بل كان يوجّه إدانة أخلاقية صريحة، وهو الوحيد من قادة العالم الذي شبه سياسة إسرائيل بأفعال النازية. لينينغراد رمز مقدّس في الذّاكرة الروسية للصمود في وجه الجوع والدمار، ورَبطُ غزة بها وضع الفلسطينيين في موقع الضحية المقاوِمة، ورسّخ القضية في الوعي الروسي والعالمي كامتداد للمعاناة الإنسانية التي عرَفها الشعب الروسي نفسه.

دبلوماسيًّا، تحافظ روسيا على توازن دقيق. فهي تَرفض التصنيف الغربي لـ"حماس" كمنظمة إرهابية، وتعتبرها جزءًا من النسيج الفلسطيني، وتستضيف وفودًا من مختلف الفصائل. وفي الوقت نفسه، تؤكد أن جذور الأَزمة سياسيّة، وأن "العدوان على غزة نتيجة غياب حلٍّ عادل بإقامة دولة فلسطينية مستقلة". موقفها هذا يمنحها مصداقيّة نادرة كطرف وسطيّ قادر على الحوار مع الجميع، دون تفريط في المبادئ.

في الأمم المتحدة، حوّلت روسيا مجلس الأمن إلى ساحة لفضح ازدواجية المعايير. فقد دعمت كلّ قرار يدعو لوقف النار ورفع الحصار، وندّدت باستخدام أمريكا الفيتو لحماية إسرائيل من المحاسبة. يقول لافروف: "نحن لا نختار طرفًا ضدّ آخر، بل نختار القانون الدولي ضدّ مَنطق الغاب". يعزّز هذا الموقف صورة روسيا كحامية للنظام متعدّد الأقطاب في مواجهة الهيمنة الأحادية.

تَربِط موسكو بين غزة وكييف: "من يبرّر قَتل الأطفال في غزة لا يملك الحقّ في الحديث عن الإنسانية في أوكرانيا". هذا الربط ليس تكتيكًا، بل جوهر رؤيتها للعالم: إما أن تكون الإنسانية موحَّدة، أو أن يكون الحديث عنها نفاقًا.رغم العقوبات، لم تتخلَّ روسيا عن مسؤولياتها الإنسانية. فقد أرسلت مساعدات عبر الهلال الأحمر المصري، واستعدّت لاستقبال الجرحى، بل واستضافت أكثر من 15 ألف فلسطيني مؤقتًا. كما تواصل المؤسسات الثقافية والدينية الروسية — كالجمعية الأرثوذكسية الفلسطينية — دعمها المدارسَ والمستشفيات، في استمرار لتاريخٍ يعود إلى القرن التاسع عشر.

خلاصة القول: روسيا لم تَغِب. هي لا تَحضر بالطائرات، بل بالمواقف. لا بالصراخ، بل بالصبر. يقول لافروف: "لسنا في زمن نختار بين أوكرانيا وفلسطين، بل بين العَدل والنفاق". وبوتين يذكّرنا: "هناك من يغيّر العالم بالصراخ، وهناك من يغيّره بالصبر. نحن من الصنف الثاني"، وإعلان روسيا أنّها تدعَم خطة ترامب لوقف الحرب في غزة بشرط أن تؤدي إلى قيام دولة فلسطينية تأكيدٌ منها على أن المشكلة تتمثّل في عدم تنفيذ قرارات الأمم المتحدة، وأنّ عدم قيام دولة فلسطينية هو سبب الحرب وليس نتيجة لها.

في عالمٍ تُباع فيه الإنسانية، تَبقى روسيا — رغم كلّ شيء — صوت ضميرٍ لا يزال حيًّا.

د. سمير خطيب

كاتب وروائي فلسطيني، طبيب أسنان وناشط سياسي واجتماعي. رئيس رابطة خريجي جامعات روسيا والاتحاد السوفياتي في فلسطين الداخل. صدرت له رواية "عندما تنطفئ الأضواء"، وقيد الطباعة الآن روايتان: "سبع ليال وليلة" و"حمائم فلسطين الرقميّة".

رأيك يهمنا