الطَّبيب حُسام أَبو صفيّة: عِندَما تُنْتَهَك حَصانَة "الرِّداءِ الأَبيَض"

ما مَعنى أن يكون الثَّمن حريَّتَك وأَمنَك وأَمانَك! أو مثلًا أن يُقصف منزِلُك ويَستشهد ولدُك؟ وأن يأتي ذلك كلّه كَوَسيلة ضَغط عَلَيك... فقط لكونك طبيبًا رفضتَ إخلاء المشفى الذي تُديره وتَعمل فيه، أو لكونك صاحبَ رسالة ومسؤوليّة تِجاه مَرضاك وجَرحاك ومهنتك الإنسانيّة! أو لكونك صاحبَ ضمير بشريّ، إنسانيّ، حيّ. لقد فُرِضَ عليك الاعتقال، السّجن، التّنكيل، الهَوان والتّعذيب نتيجة تمسُّكِك بإنسانيّتك ورسالتك والتزامك بمهنَتك. فماذا سيحلّ بمَرضاك وما هو مصيرهم بعد اعتقالك وحَرق المَشفى أمامَ عَينيك!؟...
هذا وَصفٌ مُبَسَّط لما حَصل مع ابن شمال قطاع غزة الدكتور حسام أبو صفيّة، عِلمًا أنّه ليس الطبيب الوَحيد المتواجِد داخل السّجون والمُعسكَرات الإسرائيلية، فالحَديث يَدور عن مئات الأطبّاء والمُمرّضين والكوادر الطبيّة، الذين بات مكانُهم السّجنَ بدلًا من مكانهم الطبيعيّ داخل المَشافي، كي يتابِعوا عملهم الإنسانيّ ويقدّموا العلاج والرّعاية الصحّيّة والطبيّة لمَرضاهم.
باختصار، دكتور أبو صفية هو طَبيب أَطفال ومدير مَشفى كمال عدوان، تمّ اعتقاله في 27 كانون الأول (ديسمبر) 2024 بسبب رفضِه إخلاء المستشفى كما جاء على لسانه. هذا ما حَدَث مَعَه بكلّ بساطة! فإلى أين يَذهب المصابون والجرحى خلال أَشرَس إبادة حَصَلت -ولا تزال تَحصل- في العصر الحديث! فَقَط من بابِ المسؤولية الإنسانية والمهنية والأخلاقية رَفَضَ الدكتور أبو صفية إخلاء المستشفى.
باختصار، تَقتَحِم دَبابة إسرائيلية باب المستشفى لاعتقاله، فيُسلّم الطبيب نفسه وهو في زيّه الطبيّ. فهل شَهِد التاريخ حدثًا مشابهًا؟... أن تأتي دبابة لتعتقل طبيبًا وهو على رأس عمله الإنسانيّ! بعدها تمّ إجباره على خلع ملابسه وتفتيشه عاريًا، ثمّ يقتاد لاحقًا إلى معسكر "سدي تيمان" في جنوب البلاد. وعندها تبدأ رحلة العذاب الحقيقية، إذ تعرّض أبو صفية إلى سلسِلة من التحقيقات، والتنكيلات، والتعذيب، والضرب، والإهانات، والتّجويع، وتم تعريضه للبَرد الشّديد؛ بَرد الصحراء، مدَّةَ 14 يومًا.
بعد ذلك، نُقِل إلى سجن "عوفر" ليلتقي مع بَرد جبال القدس وصَقيعها. كما تمّ زجّه داخل زنزانة لا تتجاوَزُ مساحتُها مترين× متر، مُظلِمة، لا يدخلها الهواء أو الضوء، خالية من كلّ مقوّمات الحياة، وفيها مَكَث طوال 25 يومًا، وحيدًا ومعزولًا بشكل تامّ عن العالَم. تمّ التحقيق معه مدَّةَ 13 يومًا بشكلٍ متواصل، دون رحمة أو شَفقة. أُنهك جسديًّا ومعنويًّا ونفسيًّا لعلّ ذلك يُجبرُه على الاعتراف بِأُمور لا علاقة له بها كطبيب، ذلك كلّه من أجل نَسْب لائحة اتّهام له أو ادراجه تحت تصنيف ما يُسمى "مقاتل غير شرعيّ" وفق القانون الإسرائيلي الذي سُن عام 2002، وتم تَفعيله بالتّحديد على معتقَلي قطاع غزة.
حاولَت إسرائيل بالقوّة كَسر الصورة الأَيقونية التي رسخت في ذهن كل من شاهد الطبيب واقفًا بردائه الطبيّ الأبيض أمام الدبّابة مذكرًا بالتزامِه وولائِه للقَسَم الذي تعهّد به منذ بداية مسيرته الطبيّة، والذي يوصيه بتقديم الخدمة اللازمة والإنسانية، وحماية المرضى كافّة وصَون حقوقهم وأجسادهم وصحّتهم، دون أيّ تمييز عنصريّ، حتّى لو كان الحَديث عن عدوّ في أرض المَعركة أو في عُقر دارِك. فالواجب الطبيّ هو واجب إلزاميّ إنساني. تتعمّد إسرائيل حتى اللحظة كَسرَ وتشويه الأثر الجماهيري الذي تركته صورة الطبيب كمحاولة لأن تُثبِت للعالم أن هذا الطبيب الذي تتعاطَفون معه وتطالبون بإطلاق سَراحه ما هو إلّا "مجرم".
لقد مرّت على اعتقال أبو صفية تسعة شهور، وهو يَمكث إلى الآن داخل السجن مع غيره من الزملاء الأطباء والكوادر الطبيّة، دون توجيه أيّ تهمة له بناءً على ما تتذرّع به المخابرات والنّيابة من وجود ملفٍّ سريّ خاصّ، ترفض الكشف عنه أو الإفصاح عن خفاياه. تخيّل ما معنى أن يُزجّ طبيب داخل سجن شهورًا متواصلة -وقد يتجاوز السنة وأكثر- دون تقديم لائحة اتّهام أو حتّى محاكَمَة حَقيقيّة! هذه ضريبة التشبُّث بالإنسانية للفلسطينيّ الغزّي!
دكتور حسام أبو صفية موجود حاليًا في قسم 24/غرفة 2 داخل سجن "عوفر"، برفقة العَديد من المعتقَلين الغزّيين، المحرومين جميعًا من أدنى شروط الرعاية الطبيّة والصحية. يرافِقُ ذلك تَجويع مَقيت، وظروف قاهرة غير إنسانية، لا يتحمّلها أيّ إنسان في العالم. يعاني أبو صفية نتيجة لهذا الاعتقال من مَشاكل في ضغط الدم، وعدَم انتظام في دقّات القلب وضعف في النظر، كما أنه تعرّض لركلات وإصابات في أنحاء جسده ألحقت أذًى بعينه وألحقت كسورًا في أضلاعه. لا يزال الأسرى حتى اللحظة معزولون، يتعرّضون للضّرب والقمع والتنكيل ولا يتلقى أيٌّ منهم علاجًا طبيًّا حقيقيًّا. يَنامون على الأرض، محرومون من الوسائد وتتمّ مصادرة الفرشات والبطّانيات منهم، وأجسادهم ممنوعة من ملامَسة أشعّة الشّمس، كما يُحرمون من الصابون، الأمر الذي أدّى لتفشي مرض الجَرَب داخل السجون. هم ممنوعون حرفيًّا من كلّ شيء، حتّى الملابس التي يرتدونها لا يتمّ غسلها أو تَبديلها. تخيّل أنّك منذ سنة تقريبًا لا تأكل سوى ملعقة من المربى أو ملعقة من الّلبنة أو مِلعَقة من الأرز، وقد خسرت أكثر من ثلث وزنك!
هذا تَوصيف مقتَضَب لحالة طبيب الأطفال حسام أبو صفية. لعلَّنا نتساءَل: أينَ المؤسّسات الحقوقية والإنسانية؟ أينَ الأطباء ومديرو القطاعات الصحيّة في إسرائيل؟ أين البَشَريّة؟ أَم أنّ المعايير والتّصنيفات هنا مختلفة؟ أَم أنّ أسرانا ربما لم يولدوا بشرًا وفق نظرية العالم المتذبذب!
وأخيرًا، وبعد نَجاحي في توثيق حالة الدكتور أبو صفية والوصول إليه داخل السجن بَعد أكثر من شهرين من اعتقالِه، ومتابَعَتي لَه من خلال زياراتي الدوريّة، أقول إنه رغم كّل المُعاناة والثّمن، فهو ما زال متشبثًا بموقفه الإنسانيّ، ويشعر بالمسؤولية والقَلَق إزاء المشافي المدمَّرة في القطاع والطواقم الطبية. كما يُعيد ويكرّر عبارته المُلهِمة التي يُذَكِّر بها شُعوب الأرض وأصحاب الضمائر الحيّة بأنّ "ما التاريخ إلّا تسجيلٌ لصوت إنسانٍ صاحبِ موِقف… يُسجّل ثم يُخلّد ثم يُدرّس لتحيا الإنسانيّة…". وما زال أبو صفيّة عِندَ وَعدِه وقوله: "دخلت باسم الإنسانيّة وسوف أَخرج باسم الإنسانيّة. أنا الذي اختُطف من داخِل المستشفى. سَنَبقى في أرضِنا ونَعمل على تقديم الخدمة الصحيّة للناس وللبشريّة... إن شاء الله، ولَو من داخل خيمة".
دعونا نصلّي معًا لتنهض الإنسانية جمعاء من سباتها؛ ليحيا الإنسان، الإنسان... أينما كان ومن أيّ لونٍ أو عِرقٍ كان...!
(استخدام الصورة بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال ملاحظات ل [email protected]).