أَنْ أَكتُب كَفِلسطينيّ بالعِبريّة: اختِراق الجِدار السّردي

منذ ما يقارب الخَمسة أعوام، وَجَدت نفسي أَقف أمام خيار لم يكن عابرًا: الكتابة بالعبرية، في قلب الفَضاء الإعلامي الإسرائيلي، مخاطبًا قارئًا مغايرًا لا يشبه قارئي الطبيعي. كان ذلك بعد هبة أيار 2021، ورغم أنّي لم أفكر قبل ذلك بالكتابة بالعبرية، فقد وَجَدت أنّ من واجبي الصحافي والوطني، في ظلّ ما نعيشه، أن أَكتب ما يَحصل مع مجتمعي وشعبي، في ظلّ التّضليل الإعلامي الإسرائيلي، أَن أكتُب باللغة العبريّة التي تتّخذها المؤسَّسة الإسرائيلية سلاحًا لإعادة إنتاج روايتها.
في تلك اللحظة، بدأ مَساري مَع موقع سيحا مكوميت، المَوقع العبري ذو التوجّه اليساري الراديكالي، ومع مجلة +972 الناطقة بالإنجليزية. منذ ذلك الحين صِرتُ أَكتب في فضاء معادٍ في أغلبه، لكنّي اعتَبَرت هذا العداء بالذات سببًا كافيًا للاستمرار. ولَم اعتَبر يومًا الكتابة بالعبرية ترفًا مهنيًا أو ميزة، بل مسؤولية سياسية وأخلاقية، وخطَّ مواجهة سرديّة ضدّ آلة إعلامية متضخّمة تُحيل الفلسطيني في الوعي الإسرائيلي إلى شَبَح، إلى عدو غامض بلا ملامح، بلا صوت، بلا رواية.
على امتداد العامين الماضيين، كان مَوضوعي الأَبرَز هو حرب الإبادة على غزّة وما رافَقَها من أجواء مشحونة داخل المجتمع الإسرائيلي والفلسطيني على السواء. بينما كرَّست وسائل الإعلام السائدة نفسها لترديد الرواية العسكرية والسياسية الرسمية، اختار سيحا مكوميت، بخِلاف كل الإعلام العبري تقريبًا، أن يَفتَح نوافذ على غزة، أن يَمنح صوتًا لمن لا صَوت لهم في الصحف العبريّة. أنجز زملائي هناك تحقيقات كشفت جرائم تُرتكب في العتمة: فَظائع بحقّ المدنيين، استهداف للبنية التحتيّة، وتواطؤ شركات كبرى مثل مايكروسوفت وجوجل وأمازون في تزويد المؤسّسة العسكرية الإسرائيلية بأدوات تقنيّة تعزّز قدراتها على التدمير.
من جانبي، ركّزت كتاباتي على ثلاث جبهات مترابِطة: غزة تحت القصف، الضفة الغربية في مواجهة اعتقالات وانتهاكات يومية، والدّاخل الفلسطيني الذي يعيش على وَقع تهميش مؤسّسي وإجرام منظم.كَتَبت عن الأسرى الذين تحوّلوا إلى أرقام في نشرات الأخبار، والملاحقات السياسيّة التي لم تتوقّف ضد الناشطين، وعن الجريمة المنظَّمة التي تُترك لتنهش مجتمعنا في الداخل، حتى صارت بمثابة سلاح آخر لإضعافنا. في الوقت نفسه سَعَيت لأن تكون غزة حاضرة في كتاباتي، ولو من بعيد: شهادات عن عائلات أُبيدت، عن مواقع أثريّة مُدرجة على لوائح اليونسكو دُمّرت عمدًا، عن إرث تاريخي وثقافي طُمِس في ساعات. كنت أعتَبر أن مجرّد إيصال هذه الأصوات إلى القارئ العبريّ فعل مقاوَمَة في حدّ ذاته، وأن كلّ سَطر يَخرج من بين الرّكام هو محاولة لصدّ جدار الصمت.
غير أنّ الكِتابة في هذا السياق لم تكن سَهلة، بل كانت مَحفوفَة بالتّناقض. أَكتُب بحرّية، نعم، لكنّني أَعي أن هذه الحرّية مزدوَجة: حريّة أن أَكتب بلغة "الآخر" الذي لا يَخشى حروفَه، وحريّة أن أقول له ما لا يُريد أن يسمعه. لهذا كانَت رُدود الأَفعال دومًا مزدوجة بدورها: رسائل دَعم وتقدير من قراء رأوا في كتاباتي نافذةً نادرة على حقيقة لا يعرفونها، في المقابل سَيل من الهُجوم والشتائم والاتهامات بالخيانة والّتضليل. ولستُ أُبالغ إن قلت إن كلّ تعليق، حتى أكثرها عدائيّة، كان بالنسبة لي دليلًا على أن الكلمات أصابَت موضع الألم.
ظلّ انتقادي الأكبَر موجَّهًا نحو ما يسمى بتيار "اليسار الإسرائيلي" والصهيوني منه، مع كلّ التناقض في الفكرة نفسها: كيف تكون يساريًا وصهيونيًا في الوقت نفسه؟ لكن ليس هذا ما أناقشه الآن. فهذا التيار، رغم ادّعائه الليبرالية والانفتاح، ظلّ في حقيقة الأَمر أسيرَ دائرة مغلَقة، يكرّر خطاباته على مَسامع جمهوره المقتنع أصلًا، دون أن يبذل جهدًا حقيقيًا لاختراق الجمهور الأوسع أو لتوسيع دوائره. كان هذا انتقادي قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول. لكن بَعد ذلك اليوم، تبدّل المَشهد بالكامل. تحوَّلت إسرائيل إلى ساحة غاضبة تَحكُمها أصوات الانتقام والكراهية، وغدا أيّ خطاب عن الفلسطينيين باعتبارهم بشرًا يستحقون الحياة فعلًا محفوفًا بالخطر. لم تعُد كلمة "سلام" كَلِمة عادية؛ صارَت شِبهَ محرّمة، يُقابَل مجرّد ذكرها بالاستهجان وربما بالخيانة.
رغم هذا التحوّل المروّع، لا بد من الإشارة إلى بعض المبادَرات التي أصرّت على المقاومة المدنيّة داخل هذا المناخ الخانق. حِراك "نقف معًا"، وهو إطار عربي-يهودي، يُواصل تنظيم المظاهَرات والنشاطات، يرفع شِعار السلام حتى في قلب المُدن الإسرائيلية، رغم أنّ هذا الشّعار نفسه صار مستفزًا لقطاعات واسعة مِنَ المجتمع. توسع الحراك خلال العامين الأخيرين، وصار بمثابة تذكير بأنّ هناك بذورًا صغيرة تقاوم التصحر الأخلاقي والسياسي.
اليوم، يبدو الحِوار مع الشارع الإسرائيلي أَصعَب من أيّ وقت مضى. موجَةُ الحقد العارم طَغَت على كلّ نقاش عقلاني، وحوّلت كلّ محاولة للحديث عن الحقوق الفلسطينية إلى معركَة كلاميّة أشبه بالانتحار. مَعَ ذلك، فإنّ هذا الواقِع القاسي لا يُلغي واجب الكتابة، بل يجعله أكثر إلحاحًا. فالانسحاب يَعني ترك الساحة بالكامل لخِطاب الكراهيّة، والتّراجع يعني التّسليم لآلة التّحريض التي لا تكفّ عن إعادة إنتاج نفسها.
لستُ ساذجًا لأظن أن مقالاتي ستقْلب الرأي العام الإسرائيلي رأسًا على عقب. أَعرِف أن الجِدار السّردي الذي بنَته المؤسّسة الأمنية والإعلامية أقوى من أن يُهدم بمقال أو تقرير. لكنني أؤمن أن إصرارنا على الكتابة بالعبريّة، وعلى اختراق اللغة التي يحتكرها الآخر لفرض روايته، هو واجب أخلاقي وسياسي. هو فِعْل مقاوَمَة لا يقلّ أهميّة عن أيّ شَكل آخر من أشكال النّضال. ففي زَمَن يزداد فيه الحصار على الحقيقة، يصبح مجرّد إيصال شهادة من غزة، أو صوتَ أسير، أو صرخة من الداخل، تحديًا يخرق جدار الإنكار.
السؤال الذي يظلّ حاضرًا هو: هل يمكن لهذه المحاوَلات أن تُحدث فارقًا؟ ربما. وربما لا. لكن المؤكّد أن غيابَها سيَجعل الكراهية الصوتَ الوحيد في الساحة. لهذا أكتُب، ولهذا أصرّ على الاستمرار، حتى وإن صار الطريق أَكثر وعورة، وحتى وإن تحوّلت الكتابة نفسها إلى ضَرب من المجازَفة.
في النهاية، لعلّ المَعنى الأعمَق لهذه التّجربة يكمن في إدراك أن الكتابة بالعبرية ليست مجرّد استخدام لغة أُخرى، بل هي مواجَهة داخليّة، فِعلَ مقاومة مزدوج: مقاومة للواقع الذي يَسْحق الفلسطينيين، ومقاومَة للخطاب الذي يَسعى إلى مَحوِهم. الكتابة هنا ليسَت مهنة، بل شهادة. شهادة على أن الحقيقة لا تزال تَجِد طريقها، ولو وَسَط الرّكام، وأنّ الكلمات قادرة على أن تُشعِل شَمعة صغيرة، حتى في أكثر الليالي ظلمة.




