انقِلابُ المَشهَد: العالَمُ عِندَما يَرى بِعُيون الفِلِسطينيين

منذ أَكثَر من سبعة عُقود، والقضيّة الفلسطينية تَسكُن الوعي الجمعيّ العالميّ كجَرح مفتوح، لكنّه في كثير من الأحيان يُغيَّب عن المَشهد المتأزّم عربيًا. غَير أنّ السنوات الأخيرة -بشَكل خاص منذ حرب الإبادة الإسرائيلية الأَخيرة على قطاع غزة- أَعادَت هذا الجَرح إلى سَطح الخِطاب الإنساني والسياسي والإعلامي. لم يَعُد بالإمكان تَجاهُل فلسطين، ليسَ لأنّ الأَلم تفجّر من جديد، بل لأنّ الرواية تغيّرت، والوَعي العالمي تغيّر معها.
إنّ ما يَحدث اليوم ل مجرّد عَودة القضية الفلسطينية إلى العَناوين، بل هو تحوّل في الوَعي الاتّصالي ذاته — في كيف تُصنَع السرديّات، ومَن يَملك الميكروفون، ومن يجرؤ على كَسر احتكار الحَقيقة.
في الماضي، كانت وَسائل الإِعلام الغربيّة الكبرى، بما تَملكه من قُوة الانتشار والتّأثير تتحكّم إلى حدّ بَعيد في زاوية النَظر إلى القضية الفلسطينية، فتَصوغه غالبًا كـ"نِزاع متبادَل" أو "حقّ دفاع عن النفْس"، متجاهلةً جُذور الاحتلال، وبُنية ومستوى القمع والانتهاكات الصارخة للقانون الدولي التي يتعرّض لها الفلسطينيون. لكنْ في السنوات الأخيرة، تحوّل هذا الاحتكار بفِعل ثَلاث قوى، هي: الإِعلام الرقميّ، والصحافة المستقلّة، والجمهور نفسه.
من السيطرة إلى التعدّد: الإعلام يَفقِد هيمنته القديمة
عندما حَظَرت قنوات كـ"CNN" و"BBC" بثّ جلسة محكمة العدل الدولية التي نَظَرت في دعوى جَنوب إفريقيا ضدّ إسرائيل بتهمة الإبادة الجَماعيّة، لم تَصمت الحقيقة. فقد بثّها آلاف الصحافيين وروّاد المنصّات الرقميّة، مِن "اكس" إلى "تيك توك". فَجأَة، لَم يَعُد الإعلام التقليديّ وحده يَملك سلطة التّفسير. أَصبَح الصوت الشعبي أو المجتمعي؛ من صحافيين ميدانيّين في غزة، ومِن ناشطين في الشّتات، ومِن باحثين مستقلين، يَصْنع الرواية ويواجِه روايات التحيّز الأَعمى لإسرائيل.
ليسَت هذه ظاهرة اتّصالية فقط؛ إنّها تحوّل أخلاقي في طبيعة المَعرِفة. لقد بدأَ الجمهور العالمي يَرى بعيون الفلسطينيين لا بعَدَسات المؤسّسات الغربية، وبدأَ يميّز بين "التّغطية" و"التواطؤ الصّامت".
الإعلام الفِلِسطيني والعَربي: من ردّ الفِعل إلى الفِعل
أَحَد مَظاهر عَودة القضية الفلسطينية إلى الواجهة هو نُضوج الخطاب الإعلامي الفلسطيني والعربي. لَم يَعُد الصوت الفلسطيني مقتصرًا على الشّكوى من الانحياز الغربيّ، بل بات يُنتِج معرفةً، ويَقتَرح سرديّة بديلة متماسكة، تُوثّق وتحلّل وتَفْضح.
لا يَكتفي الإعلاميّون الفلسطينيون اليوم بتغطيَة الأحداث؛ بل يمارِسون مقاومة معرفّية، يَرسمون صورة متكامِلَة للإنسان الفلسطيني الذي يُريد الحياة رَغم الحصار، ويَربطون بين العدالة لفلسطين والعدالة الإنسانيّة عمومًا.
تجلّى هذا التحوّل عند الجيل الجَديد من الطَلَبة في كلّيات الإِعلام في الجامعات الفلسطينية، ولمستُه مِن تَجربتي كمحاضرة جامعية، فهُم لا يتعامَلون مع الإعلام كأداة نَقْل، بل كسِلاح وعي. يَسألون: كيف نَروي قصّتنا؟ كيف نَحمي مصداقيّتنا وَسَط سَيل التّضليل؟ كيف نَكون جزءًا من حركة إعلامية حرّة لا تَخاف قولَ الحقيقة حتى لو حوصِرت؟ هذه الأسئلة بحدّ ذاتها دليلُ على أنّ فلسطين لم تَعُد مجرّد قضية، بل مدرسة في الأخلاق الإعلامية.
التضامن الرَقَمي: مِن "هاشتاغ" إلى وَعي عالمي
تظنّ بعض المؤسسات أنّ التضامن مع فلسطين مجرّد موجَة عاطفيّة على الإنترنت، لكنّ الحقيقة أَعمَق. بات التضامن الرَقَمي ممارسةً سياسية جَماعيّة، تُعيد تَعريف العدالة والتّمثيل.
رَأَينا في الأشهر الأخيرة كيف تحوّل المحتَوى الرّقمي إلى ساحة مواجَهة بين سرديّتين: سرديّة الاحتلال التي تمتلِك المال والمنصّات، وسرديّة الفلسطيني الذي يمتلك التجربة والصّدق وما يُكابِده الإنسان الفلسطيني على الأرض.
رَغم محاولات تقييد المُحتوى الفلسطيني عَبر خوارزميّات المنصّات الكبرى، ظلّت الصوَر والفيديوهات الخارجة من غزة تهزّ الضّمير الإنساني في كلّ مكان. صَنَعت هذه اللقطات، التي يصوّرها صحافيون تحت النار — ومن ضحايا الإبادة، والتجويع، ما لَم تصنعه عُقود من البيانات الدبلوماسية: مكّنت الشّعوب من الرؤية بلا وسَطاء.
فِلِسطين كمرآة للعَدالة العالميّة
ليست عَودة القضيّة الفلسطينيّة إلى المُقدمة مجرّد نتيجةٍ لتصعيد عسكري أو مأساة إنسانية، بل انعكاس لرغبة الشّعوب باحترام وعيِها، بعيدًا عن ازدواجية المعايير. فحين يُقتل الصحافي الفلسطيني على الهواء، ويُمنع بثّ جلسة قضائيّة تتّهم جيش الاحتلال بالإبادة، يُدرِك المتابِع في كلّ مكان أنّ القضيّة لم تَعُد فقط فلسطينية، بل قضيّة صِدق وكرامة إعلامية وإنسانية.
لقد باتت فلسطين مرآة تَكشف نِفاق المَنظومة الإعلامية والسياسية الدولية، وتَدفع العالم إلى مراجعة مفهومه عن "حقوق الإنسان" و"حريّة التعبير".
في النّهاية، لم تكن عَودة فلسطين إلى الواجهة هديّة مِن أَحَد، بل استعادة لحقّها الطبيعي في أَن تُرى وتُسمَع. لم يَعُد الإعلام قادرًا على حَجب الصوت الفلسطيني، لأن هذا الصّوت اليوم متعدّد، حرّ، ومؤمن بأن السّرد هو شَكل من أشكال المقاومة.
التضامن مع فلسطين لم يعد شعارًا أو بيانًا، بل عملية مستمرة من تفكيك الخِطاب المهيمِن، ومِن بناء وعيٍ عالمي جديد يَرى العدالة لا مِن زاوية القوّة، بل من زاوية الإنسان.
إنها لَحظة فارقة للإعلام العالمي: إمّا أن يكون مرآةً للسلطة، أو مرآةً للضمير.
وفلسطين كما كانت دائمًا هي الاختبار الحقيقيّ.




