المَحوُ الرّقَميّ وَمُجابَهَتُه

عَبْرَ الشّاشات تَختفي الأصوات كما تَختفي الأسماء مِن الخرائط. بينما تُمحى البيوت والأَحياء في غزة بالمَدافع والقتل، تُمحى الرّوايات والصّور والملّفات الشخصية على مَنّصات التّواصل؛ تَحصيل حاصل لحَملة منهجيّة من الطَّمس المزدوَج: إبادَة جسدية تتوازى معها إبادَة رقميّة. لا بدّ أن نتوقف أمام هذا البُعد: محوٌ إلكتروني يُصاحب الإِبادة الميدانيّة، ويَعمل على تَهميش الحقيقة وإِخضاعها لآليات الخوارزميّات والقرارات التجاريّة.
على مَدار عامَين، خَرَج المَلايين إلى الشّارع ومَلايين أُخرى إلى الشّاشات. انتهى زَمَنُ أَن تَبقى منصّات الإعلام التقليديّة وحدَها هي البوّابة، صارَ الفيديو القصير في الـ "ستوري" على إنستغرام، أو بثّ مباشر مِن هاتفٍ محمول نافذةً لا تَخضَع لبوّابة رسميّة. لكنّ هذه النافذة نفسها تعرّضت لعملية مُنظمة من التّقييد: حِسابات تُحذَف، مُحتوى يَختفي ويَنْدَفن فلا يَصل لمتابِعيه، "هاشتاغات" تُمنَع من البَحث، وقِصَص تُحال إلى خوارزميّة تَفضيل لصالح منشورات الطّعام والحيوانات والموضة بَدَل توثيق المَجازر. النتيجة؟ وثائق وشهادات وتقارير تُحجب عن الجمهور، والضحايا يَفقدون فرصَتهم في أن يَسمَع العالَم صُراخهم.
دَفَع الصحافيون الفلسطينيون ثمنًا باهظًا. قتلٌ واستهدافٌ واعتداءات، في أَكثر حربٍ دموية شَهِدتها المِهنة في زمننا المعاصِر بحسب منظمات الحماية الصحافيّة؛ وفي الوَقت نفسه، مُنع الكثير مِن المراسلين الدوليين مِن دخول غزة، مما جَعَل الشّهادات المنشورة على الإنترنت بمثابَة الشّريان الوَحيد لنقل الحقيقة. وحين تُستهدف البنى التحتيّة للاتصالات، وأيضًا تُصدَر أوامر بمَنع مرور الفِرَق الفنيّة، يُصبح التّوثيق نفسه عملًا بطوليًّا، وغالبًا مستندًا إلى شَجاعة فرد واحد أو هاتفٍ واحد.
لا يقتَصر القَمع الرقميّ على الحَجب التقنيّ فقط، بل هناك سياسة عالميّة متشابكة مِن حكومات استبداديّة في بعض الدول العربيّة تَحظُر الرّموز وتَمنع رفع الأعلام، ودولٍ أوروبية تجرّم شعارات أو تَحظُر مجموعات تضامن، وفي بريطانيا تُلاحَق مؤسسات حازمة في عملها الهادف إلى مساءَلة الشركات المتواطئة في جريمة الإبادة. النتيجة هي التّضييق وتَطويق السّرد الفلسطيني سواء داخليًّا أو خارجيًّا، وتشويه صورة مَن يكافحون من أجل العدالة.
لا يُمكِننا تَجاهل دَور الشركات التقنيّة نفسها. الـمنصّات ليست محايِدة، بل أَهدافُها ربحيّة ولها سياسات ومعايير تُترجَم إلى قرارات خوارزميّة. مع ذلك، كان هناك جانب مُقاوم وبنّاء. ملايينٌ حول العالَم شارَكوا، وأعادوا النشر، تَرجَموا، استخدَموا "هاشتاغات" بديلة، وبنوا شبكات من التضامن الرقميّ. صحافيون مستقلّون ومنصّات صغيرة وآلاف الحسابات الشخصيّة فَرَضت انتشارًا للحقيقة حين عَجِزَت وسائط أخرى. المَشاهير الذين حَمّلوا مقاطع فيديو مِن داخل غزة، المدوّنون الذين وثّقوا شهودَ عيان، ساهمَ هذا كلّه في كَسر حصار المعلومات.
لَن نحتَفِل بهذه الأمر، حيث علينا أن نَفهَم أنّ وصول أصواتنا ليسَ نهاية كافية بمفردها. المطلوب إجراءات سياسيّة وقانونيّة وفنيّة، وضغطٌ على شركات التكنولوجيا لتطبيق سياسات مُنصَفَة، مساءَلة برلمانية تُطالِب بشفافية كاملة في عَمَل الخوارزميّات والمراجَعات اللغوية، وتعاونٌ بين منظَّمات حقوق الإنسان والباحثين لاختبار أَنظمة المُحتوى والتعرّف على أنماط التّصفية والتّلاعب.
نُدين بشدّة كلَّ إجراءٍ يساهم في إسكات الفلسطينيّين، سواء أكان بندًا قانونيًّا محليًّا يقيّد حرية التعبير، أَم سياسة شركة تُجرّدهم من حقّهم في الظهور، أَم تواطؤًا دوليًّا يُصمِت التحرّك الإنساني. وتكريمًا للمُقاومة الرقميّة، يجب أن نتضامن عمليًّا، نرفع الصوت، نضغَط سياسيًّا، ونواكب قضائيًّا أيّ قرار يحرم الناس من حقّهم في الظهور والحديث.
في نهايَة المَطاف، ليس التّحرير مجرّد شعارٍ يُتغنى به على لافتات الميادين. يبدأ التحرير بأن نَضمَن للناس الحقّ في رواية حياتهم، في توثيق مَوتهم، في المطالبة بالعدالة عبر وسائل اتصالٍ لا تميّز بين صَرخة إنسان وآخر. كفاحُنا ضدّ مَساعي المَحو الرقميّ هو امتدادٌ مباشرٌ لكفاح مناهضة الإبادة الميدانيّة لأنه حيث تُحرم الرواية، يُعاد إنتاج العنف. لذا، كلّ من يرفع صوتًا دفاعًا عن الحقيقة في هذه اللحظة، هو من يَحمل مشعلًا للحريّة والتّحرير. نَستَمر في المشارَكة، في النّشر، في الحضور، وفي عَدَم السماح للعالم بأن يُصبح صامتًا تجاه الذين تُمحى وجوههم وبيوتهم وحكاياتهم.




