ترامب في الكنيست: الخِطاب وما يُخفيه

​قد يَبدو للوهلة الأولى، بَعد الخطاب الذي أَدلى به الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مؤخرًا من على منصّة الكنيست الإسرائيلي، أنّ العلاقة الأمريكية الإسرائيلية ما زالت تَعيش في أَوج قوّتها وذَروتها التاريخيّة. إنّ نظرةً سَريعة على الأَحداث الأخيرة تؤكّد هذا الانطباع. خلال حرب الإبادة التي شنتها إسرائيل على قطاع غزة، استثمرت الولايات المتحدة ما يُقارب الثلاثين مليار دولار لتعزيز الآلة الحربيّة الإسرائيلية، ولم تكتفِ بذلك، بل عَمِلت كدرع واقٍ لإسرائيل في المحافل الدولية. لقد استعمَلَت واشنطن حقّ النّقض "الفيتو" في مجلس الأمن الدولي سَبع مرّات متتالية لمنع فَرض وقف إطلاق نار، مُفسِحة بذلك المجال أَمام إسرائيل للاستمرار في حملتها على القطاع. كما تَعمل الإدارة الأمريكية جاهدة للضّغط على المحكمة الجنائيّة الدوليّة لكفّ يَدِها عن ملاحقة القادة الإسرائيليين المتَّهمين بارتكاب جرائم حرب.

لم يَقتصر هذا الدعم على المؤسّسات الرسمية، بل امتد ليشمل النخَب الإعلامية والاقتصادية في الولايات المتحدة التي وقَفت بلا تردّد مع إسرائيل منذ اللحظة الأولى. لقد شهدنا محاولات حثيثة لقمع أيّ صوت مؤيد للحقوق الفلسطينية ومنع بثّ الرواية الفلسطينية داخل المجتمع الأمريكي. ومَع نهاية هذه الحرب المدمِّرة، وصل الرئيس الأمريكي إلى إسرائيل ليتغزّل بها من على منبر الكنيست، واعدًا بأن تقف الولايات المتحدة معها كلّما تطلب الأمر ذلك.

لكنْ إذا ما غُصنا في عُمق العلاقة الأمريكية الإسرائيلية، وتجاوَزنا خطاب الدّعم المعلَن، نَجِد أنّ حرب الإبادة على قطاع غزة لم تكن مجرّد حلقة في سلسلة الصّراع، بل كانت بمثابة كَشف عن اختلافات جوهريّة بدأت تبرز بين الطرفين. قد تصل هذه الاختلافات بالعَلاقة إلى مفترَق طُرق ينذر ببدء تحوّل، وإن لم يكن استراتيجيًا كاملًا بَعد، فإنه بالتأكيد تحوّل في "قدسيّة" إسرائيل داخل الوعي الأمريكي.

​تمثّل أحد أبرز مَظاهر هذا التحول في حقيقة أن الرئيس ترامب هو من فَرَض نهاية الحرب على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي لم يكن معنيًا أصلًا بإيقافها. ولم يتوقّف الأمر عند هذا الحدّ، فقد قال الرئيس الأمريكي علنًا أنه سيمنع إسرائيل من ضمّ أجزاء من الضفة الغربية. لقد تضمّنت خطة ترامب لإنهاء الحرب إشارات واضحة نحو صناعَة مناخ سياسيّ يفضي في نهاية المطاف إلى قيام دولة فلسطينية. هذه نقطة ذات أهمية بالغة، خاصة أنّ بعض أقطاب إدارة ترامب هم من الداعمين الأقوياء لليمين الصهيوني المتشدّد، وكان الائتلاف الحاكم في إسرائيل يأمل أن تكون عملية السابع من أكتوبر نقطة النهاية للمطالَبات الأمريكية، حتى من الجانب الجمهوري، بإقامة دولة فلسطينية. كما لمّحت الخطة أيضًا إلى ضرورة محاربة "الفكر المتطرف" دون أن تحدّد الطرف الذي يحمل هذه الأفكار، وهو تلميح للحاجة لمواجهة التطرّف لدى الطّرفين، وليس الطرف الفلسطيني وحده. تعبّر هذه الألغام السياسية عن تحوّلات في مزاج واشنطن العام تجاه حليفتها.

​هناك أسباب عدّة تفسّر هذا التغيير الملحوظ في اللهجة الأمريكية تجاه إسرائيل. أولًا، والأهم، هو التغيّر الدراماتيكي الذي طرأ على الرأي العام الأمريكي تجاه الصراع وطبيعة العلاقة الثنائية. أكّدت استطلاعات رأي حديثة أن غالبية الأمريكيين لم يعودوا متعاطفين مع إسرائيل كما كان الأمر سابقًا. أشار استطلاع نشرته صحيفة "نيويورك تايمز" مؤخرًا إلى أن غالبية المستطلَعين يدعمون وقف نقل الأسلحة لإسرائيل ومعاقبتها على ما يعتبرونه جرائمها، وهو أمر لم يكن ليحدُث من قَبل. وتؤكّد الاستطلاعات أن الجيل الشاب في الولايات المتحدة هو الأكثر معارضة لإسرائيل، مما ينذر بأن التوجّه المعادي للسياسات الإسرائيلية سيستمر بل يمكن أن يتأسّس في المستقبل.

بالرغم من أن التحوّل في النظرة لإسرائيل أكثر وضوحًا بين أنصار الحزب الديمقراطي والجيل الشاب، فإن هناك تحوّلات مقلقة لإسرائيل في أوساط الحزب الجمهوري أيضًا. شَهدت السنوات الماضية صعود تيار أيديولوجي داخل الجمهوريين يُعرف بـ "الانعزاليين". يؤْمن هذا التيار بضرورة تقليل التزامات الولايات المتحدة تجاه حلفائها حول العالم، معتبرًا أن تلك الالتزامات تأتي على حساب الطبقات الفقيرة والريفية في الداخل الأمريكي التي تُناصر الحزب. كما يؤمن هذا التيار بأنه بعد انتهاء الحرب الباردة، لم تعُد هناك تحدّيات دولية تهدّد الأمن الأمريكي، وأنّ التدخّل المُفرط للولايات المتحدة حول العالم يعرّض مصالحها للخطر. صعد صوت هذا التيار بقوة خلال الحرب الأخيرة، خاصة بعد الاستثمارات الملياريّة الضخمة في إسرائيل وانجرار الولايات المتحدة إلى صراع مع الحوثيين لحماية طرق الملاحة في البحر الأحمر. ما يزيد الطين بلّة بالنسبة لإسرائيل هو أن نائب الرئيس الأمريكي جي. دي. فانس، المقرَّب جدًا من التيار الانعزالي، يُنذِر بصعود تأثير هذا التيار على صانعي القرار في واشنطن.

​كما تلعب التحولات الدولية دورًا في تنافر المصالح بين أمريكا وإسرائيل. مع صعود قوى عالمية تنافس الولايات المتحدة ودول الغرب تجاريًا وسياسيًا، مثل الصين والهند والبرازيل وإندونيسيا وتركيا، تصبح قدرة واشنطن على فرض أجندتها والدفاع المستميت عن إسرائيل أقلّ فاعلية.

​كما لا يمكن إغفال شخصية ترامب الاستثنائية التي تركّز على "المعاملات التجارية" بدلًا من العلاقات المؤسساتية-الأيديولوجية. في ظل رئيس أمريكي يقدّس المال والتجارة، هناك فرصة لدول ثريّة ذات مصالح أن تؤثّر على صانع القرار في واشنطن بطرق لم تكن ممكنة من قبل. ليس صُدفَة أن الضغط الخليجي، وتحديدًا من دول المنطقة، لعب دورًا محوريًا في بلورة خطة ترامب لإنهاء الحرب وإعادة السلطة الفلسطينية كلاعب أساسي في الملفّ الغزّي رغمًا عن الحكومة الإسرائيلية.

بالرغم من هذه التحوّلات المهمة، يجب أن نكون حذرين. نهاية الحرب لا تعني نهاية التحالف الإسرائيلي الأمريكي. لإسرائيل حلفاء أقوياء في واشنطن، والنخبة السياسية ما زالت داعمة بالمطلق للأجندة الإسرائيلية. كما أن خطة ترامب جاءت لإنقاذ إسرائيل من عُزلتها الدولية أكثر مما جاءَت لوقف الإبادة، وعدم وضوح المراحل القادمة من الصفقة يُبقي الباب مفتوحًا أمام عدوان إسرائيلي جديد. 

لكن من المهم أنّ ندرِك أن حرب الإبادة على غزة صَنعت متغيّرات مهمة في طبيعة العلاقة. يبدو المستقبل قاتمًا لإسرائيل في واشنطن إذا لم تعدّل من سياساتها، لكنّ هذا يتطلّب قيادة فلسطينية وعربية ذكيّة قادرة على اغتنام هذه المتغيّرات.

د. ثائر أبو راس

باحث في العلوم السياسيّة وخبير في الشّأن الأمريكي.

رأيك يهمنا