الشّبابُ الفِلِسطيني: قِصَّة نِضالٍ يَتَجاوَز الجَغرافيا

في كلّ المراحل التي مرَّت بها القضية الفلسطينية، كان الشّباب في مقدّمة الصفوف، يَحملون شُعلتها في الميدان والفكر والعمل المجتمعي. لم يكن حضورهم طارئًا أو عابرًا، بل رَكيزة أساسية في مسيرة النضال الوطني، يُثبتون جيلاً بَعد جيل أنّ روح المقاوَمة لا تورَث بالشعارات، بل تُصان بالفعل والمسؤوليّة والتضامن الإنساني. فمنهم انطلقَت المبادَرات، وبهم تجدّد الأمل، وعلى أكتافهم استمرّ الحلم الفلسطيني في البقاء، رغم القَهر والحصار واللجوء.
لَم يكن حضور الشباب الفلسطيني في المَشهد الوطني وَليد اللحظة، بل امتدادًا تاريخيًا متجذرًا في الوعي الجمعيّ منذ اللحظات الأولى للاحتلال والاقتلاع. فمنذ أن بدَأَت رحلة اللجوء والشّتات، حَمَل الشباب راية التنظيم والعمل الشعبيّ، فأسسوا الجمعيات والمبادَرات، وابتكروا أساليبَ جديدةً للحفاظ على الهويّة وبناء شبكات التضامن مع الشعوب الحرّة في العالم. لقد أَدركوا أن النّضال لا يقتصر على البندقية، بل يَشمل الوعي والتّعليم والعمل التطوعي وكلّ ما يَحفظ الكرامة الإنسانية.
مع تتابُع النّكبات والعدوان، واصَل الشباب الفلسطيني حمْل مسؤوليّتهم بوعي ناضج، مُتَحدّين محاوَلات الإقصاء والتّهميش. في الداخل، كانوا أوّل من يبادر لتوحيد الصفوف وتنظيم المبادَرات المجتمعيّة؛ وفي الخارج، حَملوا الرواية الفلسطينية إلى المنابر والجامعات، ليعيدوا تقديم القضيّة بوصفها قضيّة عدالة وحرية وإنسانية. هكذا تشكَّلت من جهودهم جُسور تضامن ممتدّة بين الميدان والعالَم، بين الفلسطيني في وطنه والمنفيّ في بلاد الغربة.
في الضفة الغربية وغزة، يتجدّد هذا الحضور في كلّ مفصل من مَفاصل الحياة اليوميّة. كان الشباب أول من لبّى النداء، فأقاموا نقاط الإغاثة في الشوارع، نظّموا حملات المسانَدة، وجابوا الأَحياء لتوزيع المواد الغذائيّة والصحيّة على النازحين.
تحوّل العمل التطوعيّ من مبادرة فردية إلى مقاومة مدنية منظّمة تحمي النّسيج الاجتماعي وتحفظ الكرامة الإنسانية في وَجه التهجير والدمار.
في غزة المحاصَرة، انطلقت مبادَرات غير مسبوقة مِثل "شارِك شعبَك"، التي تحوّلت إلى شبكة وطنية للإغاثة يقودها الشباب، امتدّت من المطابخ المجتمعية إلى الأفران الطينية لتأمين الخبز والوجبات اليوميّة للنازحين. وفي الوقت نفسه، بَرَز جيل من الشباب الغزيين يوثّق الجرائم لحظة بلحظة، يَنقل للعالَم مَشاهد الدّمار وصوت الضحايا بعدسات هواتفهم وأَدواتهم الرقميّة. لقد أدرَكوا أن الصورة أَبلغ من الرصاصة، وأن الرواية الفلسطينية لا بدّ أن تُروى بأصوات أَهلها. بفضل جهودهم، خرَجت الحقيقة من بين الركام، وتحوّلت غزة إلى مرآة تكشف للعالَم حجم المأساة وعُمق الصُمود، وأُعيد تعريف العمل الإنساني باعتباره امتدادًا للنضال الوطني لا بديلاً عنه.
في ظلّ تدمير المدارس وانقطاع التّعليم، تحوّلت الخيام والملاجئ إلى فصولٍ مؤقَّتة يديرها متطوعون شباب حمَلوا أقلامهم بدل البنادق، وفَتحوا دفاترهم بدَل أن يرفعوا الشعارات، ليؤكّدوا أن الوعي هو خطّ الدفاع الأول عن الوطن.
هكذا تجسّد مفهوم "التعليم الشعبي"، كَفِعل مقاوم يُعيد للأطفال الأمل بالعودة إلى المدرسة، ويَزرع فيهم الإصرار على مواصلة الحياة.
كما امتدّ حضورهم إلى دَعم النساء والفتيات، خاصة الحوامل والنساء الواضعات، عَبر توفير مستلزمات ما بَعد الولادة والنظافة والصحة الإنجابيّة، إلى جانب جلسات الدعم النفسي والاجتماعي.
تحوّل التّمكين في سياق الحرب إلى موقف أخلاقي وإنساني، تُعيد فيه الفتيات والنساء اكتشاف قوتهنّ من خلال العَمل الجَماعيّ والمشاركة في إدارة الحياة اليومية داخل الملاجئ والمجتمعات المتضرّرة.
في المنافي والعواصم البَعيدة، لم يبقَ الشباب الفلسطيني صامتين، من الجامعات الأوروبية والأمريكية إلى النقابات المهنية والمنظمات الطلابية، تحرّكوا بعقلٍ واعٍ ورسالةٍ واضحة: أَنسَنَة الرواية الفلسطينية وإعادَتها إلى مَركز الضمير العَالمي.
يَعود بي المَشهد إلى لحظات الأمل كّلما رأَيت شبابنا يتصدّرون المَسيرات في شوارع لندن وباريس ونيويورك وبرلين وإسبانيا وإيطاليا، يَحملون علم فلسطين بقلوبٍ مفعمة بالوعي والمسؤوليّة، يهتفون لوقف الإبادة، ويطالِبون بإنهاء الحرب وإعلاء صوت العدالة.
في وجوههم أَرى ملامح الجيل الذي لم يَنقطع عن وطنه رغم المسافة، جيلٌ يثبت أن الانتماءَ لَيس جغرافيا، بل وعيٌ وهويةٌ وموقفٌ أخلاقي. لقد نَجَح هؤلاء الشباب في تحويل التضامن من فعلٍ رمزي إلى حركة إنسانيّة عالميّة أَعادت تَعريف العلاقة بين فلسطين والعالَم.
فَبِفضلهم، تحوّل المشهد الفلسطيني من خبرٍ في نشرات الأخبار إلى قضيّة ضميرٍ عالميٍّ حيّة، تستنهض الشعوب والمجتمعات والمؤسسات في كلّ مكان.
نظّموا الاعتصامات والمَسيرات، قادوا حملات المقاطعة الأكاديمية والاقتصادية، وتحدّثوا في قاعات الجامعات والبرلمانات والمؤتمرات بصوتٍ واحد: فلسطين ليست مجرّد قضيّة إنسانيّة، بل قضيّة عدالة وحريّة وكرامة إنسانية. استخدموا وسائل الإعلام الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي ليَكسروا احتكار السّرد الغربي، ويقدّموا وجهًا إنسانيًا جديدًا للقضية الفلسطينية، حيث الإنسان هو المَركز لا السياسة وحدَها.
بجهودهم، خَرَجت الملايين في مظاهرات عالميّة من لندن إلى مدريد ومن نيويورك إلى جوهانسبيرغ، ليؤكّدوا أنّ التضامن مع فلسطين لم يَعُد مسألة شعارات، بل حركة ضمير عالميّ تتجدّد بقيادة الشباب.
لم يَعُد التضامن الخارجي مجرّد دعم رمزي، بل امتدادًا حقيقيًا للنضال الداخلي؛ فصمود الميدان يعطي شرعيّة أخلاقية للحركة العالمية، فيما يَمنح الحراك الدولي الميدانيين في فلسطين شعورًا بأنّهم ليسوا وحدهم في مواجهة آلة الحرب.
أَدرَك الشباب الفلسطيني في الشتات أن معركة فلسطين اليوم تقوم على ميدانَين متوازِيين: الحقيقة والرّواية من جهة، والصّمود على الأرض من جهة أخرى. وبالتالي، لم ينتظروا مبادرات رسميّة أو تمويلًا ليبدؤوا، بل خَلَقوا مساحتهم الخاصة وصاغوا لُغَتهم الموحَّدة.
جَمَع هذا الجيل الذي وُلد من رحم المعاناة بين المعرفة الرقميّة والوعي الميداني، بين العمل الإغاثي والتّنظيم المدنيّ، بين المبادَرات المحلية والتأثير العالمي، يُدير الحَمَلات، يوثّق الجرائم، ينسّق المبادَرات، ويُعيد تعريف الوطنية كمشروع أخلاقي يقوم على المشاركة والمساءَلة والمسؤولية.
لقد آن الأوان أن يُنظر إلى هذا الجيل بوصفه شريكًا استراتيجيًا في صياغة المستقبل الفلسطيني، لا فئة عمريّة تنتَظر التّمكين أو الدَعم. فهو جيل يملك الوَعي والقدرة على التحرّك في زمن التحديّات الكبرى، ويُعيد تَعريف معنى النضال في القرن الحادي والعشرين: نضالٌ يَدمج بين الإنسان والوطن، بين الفكرة والفِعل، وبين الميدان والعالَم.
في الدّاخل والخارج، يُثبت الشباب الفلسطيني أنّهم ليسوا أبناء الحروب، بل أبناء الأمل. حَمَلوا على أكتافهم أعباء مجتمَع مُثخَن بالجراح، وواجهوا العالَم بشجاعة ووعي نادرين، ليقولوا إن فلسطين ليست حدودًا على الخَريطة، بل فكرة لا تَموت، لأنّ العدل لا يُهزم ما دام هناك شَباب يؤمنون به ويَعملون من أَجله.




