حَربُ الإِبادَة الغَزيّة والمُرَكِّب الدُّرزي في المَشْهَد فلسطينيًّا وإقليميًّا: وَقَفاتٌ على المَفارِق

الوَقفة الأولى... والواقع والحتميّة التاريخيّة
كُنت كتبت في السياق: "يبدو أنّ في قول أهلنا: ’إن ما كبرت ما تصغر‘، الكثير من صحّة تَراكم تجاربيّ. وانطلاقًا، أعتقد أنّه لا يمكن أن تنتهي هذه الحَرب الهوجاء، وبغضّ النظر عن شكل نهاياتها، إلّا عن حالة جديدة استراتيجيّة في كلّ ما يتعلّق بالصراع العربي الصهيونيّ وعلى الغالب نحو الأفضل الفلسطينيّ، ومع هذا المقولة: ’لا تكرهوا شيئًا لعلّه خير‘ غير سارية المفعول في سياقنا".
السائد أن امتداد الحرب وهمجيّتها نابعان من دَوافع نتانياهو الشخصيّة وتركيبة حكومته. أَعتقد أن الأمر أعمَق من ذلك وأبعَد، فمنذ أن قرّرت الصهيونيّة أن تقيم دولة يهوديّة على أرض فلسطين، قدّرت وفَهمت أنّها ستَدخل صراع وجود، وهكذا رأى الفلسطينيّون والعرب الأمر منذ أن بَدأَت الهجرات اليهوديّة المتلاحقة؛ موجاتٍ إِثر موجات. إذن القضيّة هي قضيّة ذهنيّة؛ فالصهيونيّة تَعرف تمام المعرفة -لا بل وتتصرّف- انطلاقًا من هذه الذهنيّة الماورائيّة مدعومةً بذهنيّة ليست أقلّ ماورائيّة منها؛ الذهنيّة الإنجيليّة المشيخيّة لرَبابنة أميركا وأجدادهم الأوروبيّين. العرب كذلك ذهنيّا؛ إقليميًّا وفلسطينيًّا وإسلاميًّا لم يُسلّموا ولن يسلّموا بهذا الوجود، وكلّ الاتفاقات المباشرة؛ اتّفاقات السلام، وغير المباشرة؛ التطبيعيّة، هي مرحليّة إلى أن تَزِف الآزفة الصغرى!
ورُبّ سائل: والمَصالح؟!
هذه في اعتقادي ما هيّ إلّا آليّات وأدوات في إدارة الصِراع!
هذا ما وراء حروب إسرائيل الكليّة (كلّ إسرائيل) وليسَ حروب نتانياهو ومَهما تعدّدت أسبابُه، والعائق الوجوديّ الأوّل أو رأس الحربة هو الشَّعب الفلسطيني، الذي تَجِب إبادته، وحيث أنّ ذلك لن يتأتّى جسديًّا ومهما استوحَشَت إسرائيل، فعلى الأقل إبادة قدرته الحياتيّة المواجِهة إلى أن يَقضيَ الله أمرًا كان مفعولًا!
ورغم كلّ ذلك فالواقع أقوى من ذلك كلّه، وحين يتحوّل واقع الشعوب العربيّة عن الرِّدّة المستفحلة، فستكون أضغاث أحلام وأحلام يقظة نتانياهو مجرّد أحلام، ولعلّ حرب الإبادة القائمة ستكون الفاتحة لغلبة الواقع على كلّ الماورائيّات، ولو بعد حين منظور أو غير منظور. أعتقد أنّ هذا هو الأمر التاريخيّ الطبيعيّ لا بل وحتّى الحتميّ، وحينها سيكون القَول الفَصل لخيار العَيش والتَّعايش.
الوَقفة الثّانية... والعَرب الدروز والمشهد محليًّا وإقليميًّا
رأيت سابقًا وأرى اليوم أنّ العرب الدّروز في الـ 48 وَجَدوا ويَجِدون أنفسهم بين حِجارة رحىً تحرّكها أيادٍ خارجيّة وداخليّة، تَطْحَن دونَ هَوادة وبِلا رَحمة، وادّعيت وأدّعي أنّ التحدّي الأساس الذي يوجهنا كأقليّة عربيّة في بلادنا، هو الحفاظ على مواطن قوّة وجودنا الحياتيّ وأولّها؛ وِحدتنا الوطنيّة، التي لن تتمّ إلا إذا صُنّا البيت بكلّ أَعمِدته ومِن أنفسنا قَبل أن نصونه من دُعاة هَدمه.
من نافل القول إنّ المسيرة الحياتيّة لأيّ شعب في صيرورتها وسيرورتها وبأوجهها؛ الإنسانيّة والقوميّة والوطنية والسياسيّة والاجتماعيّة، هي لمجموع أبناء الشعب، مهما اختلفت انتماءاتُهم الثانوية عقائديًّا، واجتماعيًّا، وطائفيًّا ومذهبيا. وقلَّما يُشار في الأدبيّات إلى حال شَريحة من الشرائح بمعزل عن المسيرة الكلّية، إلّا إذا حتّمت ذلك دواعٍ موضوعيّة. فهل هي موجودة في سياقنا؟!
العرب الدُّروز الفلسطينيّون من أبناء شعبنا صاروا أو صُيّروا حالةً خاصّة من حالةٍ خاصّة؛ الأقليّة العربيّة الفلسطينيّة ما بعد وعلى ضَوء النكبة وقيام دولة إسرائيل. حالة تحتّم تناولها بحُلوها ومرّها لكن من خلال ترابط لا يَنفصم مع فضائهم الكينونيّ الأوسَع، أمتهم وشعبهم، ومن خِلال إدراك الإشكاليّة خصوصًا القوميّة منها وأنا المُدّعي: القوميّة فكرًا.
الغَريب العَجيب أنّ كلّ من يتناول الدروز بمَقال أو خبَر أو مداخلة أو بحث، ومهما اختلف الموضوع والزمكان، يأْخذ بهم كوحدة واحدة بدائيّة: "راع ورعيّة". الدروز (يا عمّي!) مثل غيرهم من المجموعات البشريّة فيهم التعدّدية: وطنيًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا وحتّى فكريًّا. الأَمر اللافت هو كثرة التناول إعلاميًّا وتحليليًّا على خلفيّة الحرب الجارية اليوم على غزّة ونتائجها "الدرزيّة"؛ سقوط عَدد من القتلى من الجنود الدروز وما رافق ذلك من مواقف لِـ "قياداتهم" التقليديّة؛ المذهبيّة والسياسيّة.
الوقفة الثالثة... و"الطائفة" والتعدّديّة والإعلام
الدّروز في إسرائيل فيهم أقليّة كبيرة من "قيادات" دينيّة ودنيويّة مدعومة إعلاميًّا وماديًّا وسياسيًّا من المؤسّسة، وهي ضاجّة بحكم ذلك ومسيطرة على المشهد الإعلاميّ الإسرائيلي دون أيّ توازن لأنّ الإعلام "العربي" يَنجَر من عُرقوبه وراءَهم؛ جهالةً أو غرضيّة.
وفيهم صفّ وطنيّ عروبيّ كبير لكنّه يمثّل نسبة قليلة نسبيًّا، وكلمتهم أكبر من حجمهم العدديّ.
لكنّ الأهم أن أكثريّتهم أبعد ما تكون عن المؤسّسة وهي صامتة خوفًا على لقمة عَيشها، ولَنا في نتائج انتخابات الكنيست البيّنة الصّاعقة، إذ أنّ أكثريّة الدروز -ومنذ عَقدين تقريبًا- لا يشاركون فيها رَغم "فخّ" المرشّحين الدروز.
ما أن طاف "الطوفان" الحمساوي واستُلّت "السيوف" الإسرائيليّة حتّى طفا واستُلّ معها الدروز وتجنيدهم. خرجت "القيادات" الدرزيّة الموالية للمؤسّسة الإسرائيليّة وأتباعها (الأقليّة الضاجّة) عن طورها إرضاء للمؤسّسة، وآليّتُها كانت المجنّدين الدروز والضحايا منهم، وَوَجَدَتها، هذه الأقليّة الضاجّة، فرصة ملائمة لتحسين مواقعها ومصالحها وزيادة الفُتات وسَط تَصفيق حادّ من قطاعات يهوديّة سياسيّة وإعلاميّة وشعبيّة أحيانًا واسعة.
وأمّا القوى المناوئة لسياسة المؤسّسة فكان حالها وكأنّ على رُؤوسها وَقَف الطير، خَشيةً أو لخمة.
لكنْ تكملة للصورة، تنافَست الأصوات العربيّة الإعلاميّة؛ مرئيّات ومعلّقيها، وورقيّات وكتبتها وإلكترونيّات وحدّث ولا حَرج، تسوّق لما يجيء في الإعلام الإسرائيلي، صابّة الزيت على النار التيّ يَعلو أَوراها دون حاجتهم!
فاحتَرنا مِنْ وين نمسكِك يا قَرعة!
حَجَرا الرحى هما: اليهود من ناحية والعرب غير الدروز من الأخرى. أن تستلّ المؤسّسة "القضيّة الدرزيّة"، والتّجنيد في مركزها، خنجرًا تغمده في ظهر شعبنا الفلسطينيّ وأمتنا العربيّة والإسلاميّة أمرُ يمكن أن يُبلع وإن على مضضٍ، لكن ورغم عشرات الدراسات الأكاديميّة التي تناولت هذه القضيّة وشرّحتها وجاءت النتائج مبشّرة؛ وطنيًّا وعربيًّا، ما زال يصرّ نفرٌ من الكتبة العرب أن يحرّض "كلّما دقّ الكوز في الجرّة" مستغلًا قضية التجنيد الإجباري المفروضَة على الدروز قسرًا متجاهلًا الوقائع عن جهل، أو عداوةً مع القراءة، أو عن قَصد خبيث ينضَح طائفيّة، وهذا لا يُفهم فكم بالحري أن يبُلع.
الوقفة الرابعة... ومذابح السويداء
هذا مَوضوع بحدّ ذاته يَطول فيه الحديث، ولا تتّسع هذه العجالة لتناوله. لكنّ هول ما حدث أسقط كذلك على الدروز في البلاد وفي الإقليم. واقتنصته كلّ القوى المعنيّة فرصة لضرب أسس الانتماء العروبيّ القوميّ والإسلاميّ لدى الغالبيّة العظمى من الدروز إقليميًّا. ما من شكّ أن هذه الثوابت اهتزّت اهتزازات حادّة على "سلّم ريختر"، لكن كُثر ما زالوا يؤمنون أن الهزّة التي رافقتها ستهدأ والتراث العروبيّ القوميّ والثقافيّ الإسلاميّ سيبقى القولَ الفَصل.
تَنويه: اختيار المَوضوع والعنوان هو للموقع Scene48!

د. سعيد نفّاع
محام وكاتب وسياسي.
مواليد الأول من نيسان 1953م في قرية بيت جن في حضن الجرمق أعلى جبال بلادنا، لأب فلسطينيّ، وأمّ سوريّة لجأت إلى فلسطين طفلة بعد أن ارتقى والدها في الثورة العربيّة السوريّة الكبرى عام 1925م. محامٍ خرّيج جامعة تل أبيب 1983م، ورئيس مجلس محلّي بلدته 93-1992، ونائب برلمان 13-2007، والأمين العام ل-"الاتحاد القطري للأدباء الفلسطينيّين- الكرمل" منذ العام 2014م ورئيس تحرير مجلّة الاتحاد "شذى الكرمل"، أمين عام "الحركة الوطنيّة للتواصل" والمحرر التنفيذي لفصليّتها "التواصل".
الأمين العام للاتّحاد العام للأدباء الفلسطينيّين- الكرمل48 (الاتّحاد الموحّد من اتّحادي؛ الكرمل وال-48 سابقًا)، منذ الوحدة 09 شباط 2019م
أسير سياسيّ محرّر!