عامان يا غَزّة! إلى أَيْنَ يَأْخُذُنا الطَّريقُ؟

"العَزيزة "هلا"، أدرِك ألّا كلمات تَصلح للمواساة، لكنّها مشيئة الله كَمِ الفقدانُ قاسٍ ومؤلم، ولا أدَّعي أنه يَزول مع قادِم الأيام، لكنّه حقيقة ووجع نُدركه في تجاربنا سيظلّ نابضًا في قلبِك، وستتذكّرين كلّ لحظة جميلة وستَكتبين عنها لتَخليدها، ستبتَسمين رغم الأَلم حين تتذكّرين لحظاتكم العفويّة الجميلة، وستُهدينه في الغِياب نجاحاتك الصّغيرة والكبيرة، وستَفرحين حين تَلمَحينه طيفًا في حُلُمك، وستَشعرين حقًّا أنّك رأيتِه ولو في المنام ليهدأَ قلبُك المشتعِل بالحنين، فترفّقي بوجعك ولَملِمي أنفاسَك المبعثَرة فهو ينتَظر أن يرى ابتسامتك وقوتّك فكوني عونًا لنفسِك لأجله، سيكون سعيدًا بأن يراك من جَديدٍ "هلا" المبتسِمَة "وردةً" وَسَط الظلام، كوني يا رفيقة على سجيّتك وابكي حين تريدين ذلك واكتبي كلّ ما يدور في خلدك، فوالله إنّه وَقت صَعب وقاسٍ، ولا أعرِف كيف احتضنُك في الغياب، أَنتِ أخت غالية أشارككِ عجزي بأن أكون أَكثر قُربًا لك في هذه المِحنة، قلوب كثيرة تتمنّى لك الراحة والسكينة والسلام. لَن أَقول: كوني بِخَير، بل سأَقول لك: كوني على سجيّتك وتمهّلي على جرحك وتنفّسي بقدْر ما يمكنُك، فالوقت الصّعب سيمضي لكنّه سيبقى في القلب والرّوح حيَّا ونابضًا. محبتي لَكِ تَسبِق عزائي، وحُضنٌ من غُربةٍ إلى مَقْتَلة أرسله لك علَّنا نتحايَل على المَنطق واللغة والحصار والإِبادة. عظَّم الله أجركم وألهمك الله السكينة والسلام والمحبة".

هذه كَلمات عزائي للصحافيّة هلا عصفور بَعد استشهاد خَطيبها الصّحافي المصور محمد سلامة الذي ارتَقى بمجزرة مجمّع ناصر الطبّي في خان يونس، قبل أيّام من زفافِهِما. لا شيء بات عاديًّا في حياة الغزّيين، فبعد عامَين من النّكبة الكبرى، أَصبَحَت لَنا لغتنا وطريقتنا في المُواساة إن كنّا في الجوار أو كنّا في البعد، أصبحنا مختَلِفين في صباحاتنا ومساءاتنا وعزاؤنا أيضًا أصبح مختلفًا، أقلق الآن على قَبر والدي وبدأَ قَلقي يتزايد على قبر أُختي-الحديث!! وقتَ ظننت أنها ارتاحَت من الإبادة بَعد استشهادها قَبل عام، لكنّ الغزيّ كُتِب عليه القلق والترقّب والقفز على التخيّلات كلّها، فالواقع بقسوته بات أكثر جبروتًا على ذاكرتنا الحاليّة، نحاوِل أن نُواسي بعضنا البعض وأحيانًا نَصمِت ونَغرَق وحيدين في حُزننا هكذا بكلّ بساطة نَختفي قهرًا وكمدًا، فالبركان في أرواحنا يَحرقنا نحن! نترقّب أن تقف الإبادة بينما نَعُد شهداءَنا، نَختفي أحيانًا ونركضُ مبتعدين عن الهاتف لا نريد أخبارًا أُخرى قاسية فنحن لم نَعُد نحتَمل، لم يَعُد في ذاكرتنا متّسع لمزيد من البَشاعة؟ فمَن يَسمعُنا بعد عامين؟ مَن يرانا كأحياء لهم ماضٍ وحاضر وتاريخ، لقد أصبح العالم يرانا جثثًا متحلّلة وأشلاء مقطَّعة ونازحين ومنكوبين، تَعاطُف متلاحِق لكنّه ينتهي بأن يَختَنق بالعَبَرات ثم يُشيح كلّ منّا النظر ويتجنّب أطرافَ الحَديث العاديّ كي لا يَنفجر بركان الحُزن والوَجع في غير وقته! 

تختنق العَبَرات في صدورنا كلّما حاولنا أن نقول شيئًا، أن نُلقي تحيّة الصّباح العاديّة على مدينة تَغيب من أمام ناظرينا، نَرقُبها تذوب همًّا وكمدًا وألمًا فيما نَحن شاخصون نبحث عن بارقة أمل، نَكذب كثيرًا على أنفسنا علّنا نَحظى بأَمل كاذب، لكنّ الحقيقة التي نشهدها أشدّ قَسوة من أن نصدّقها، وأكبر إنهاكًا لأرواحنا المتعَبة. نَهذي مساء ونحن نخفي جراحَنا المفتوحَة منذ عامين، عامين يُطبقان على أنفاسنا من أكتوبر إلى أكتوبر، عامين اكتوَينا خلالهما بكلّ أنواع العذاب والكَبت والإحباط والحُزن والخذلان، عامين داسَت جنازير الدبابات على أحلامنا وبيوتنا وماضينا وحاضرنا ومستقبَلنا، عامين لا نصدّق ما يَحدث فينا وأمامَ الجميع، نَصرخ حينًا، نَصمِت حينًا، نختفي عن الأَنظار حينًا آخر لكنّنا في الغياب كمدينتنا الجَريحَة لا ندرِك معنىً لأيّ شيء، لا معنى لحياة تختَزَل أمامنا بالدّم المسفوك والجدران الممزَّقة وأرواحنا وتشتّتنا؛ لا عائلة واحدة في غزة يمكنها أن تكون معًا، فبعضُنا يكتَوي بالخيمة وآخرون في شمال القطاع وآخرون في جنوبه وآخرون تشتّتوا خارج الوطن، لا عائلة تضمّ بين جناحيها أم وأب وأطفال أخوة وأخوات، غزّة التي تميَّزت بالحبّ والدفء والعائلة الممتدة؛ الأعمام والعمات والخالات والأخوال والجيران كلّنا عائلة كبيرة، اليومَ دَفَنَت عائلة بأكملها وبالأمس واليوم نَجَت إحداهن فيما يُناجي زميل صحافي إنقاذ عائلة أخته التي تصرخ أسفل الركام أَنقذونا.. أَنقذونا قبل فوات الأوان، أنقذوا غزة وما تبقّى منها...! 

هُنا غَزة.. هُنا الإبادَة والنّزوح لا يتوقفان...!

كَتَب مهند قشطة قَبل أيام عن أَغرَب موقف مرّ عليه في حياته واصفًا: "على باب خيمتي في مواصي خان يونس يفترش 5 أشخاصِ الأرضَ، مع عدَدٍ من الحَقائب وما تبقّى من منزلهم الذي تَرَكوه خلفَهم في منطقة اليرموك بمدينة غزة ونزَحوا قسرًا إلى الجنوب.. امراة وثلاثة أطفال، سألتهم: هل تحتاجون مساعَدة؟ فأجابوا: لا، نَحن بخير. كان المَنظَر أقسى على قلبي من تركهم والمضي قدمًا..

فَعُدت أنا وعدد من الجيران أهلِ النّخوة من خان يونس وكرّرنا السؤال نفسه، وسألتها: أين َزوجك إذا أَرَدتم المَبيت هذه الليلة في خَيمتنا المتواضعة بدلًا من النوم في الشارع؟ فقالت إن زوجها ذهب ليبحث عن مكان يأويهم عند صاحبه ولَو دَخَلنا خيمتَك، وعاد زوجي فَلَن يجدنا.. قلت: أَعطِني رقم هاتفه. قالت: لا يملك هاتفًا. اعطني رَقَم صاحبه. قالت: أنا أيضًا لا أملك هاتفًا، فقد بِعنا هواتفنا في غزة لنستطيع النّزوح إلى "تبة النويري"، وقد وصلنا إلى هنا في المواصي مشيًا على الأقدام. قام ابنها يمشي يبحث عن والده ويقف على رَأْس الشارع فلاحَظنا بأنّه يَعْرج على قدميه، فقالت: كنا نائمين في الشارع الليلة الماضية فقامَت سيارة لا تَملك لا أضواء ولا كَوابح بدَهس أَقدامِنا جميعًا. وعن ابنها الآخر "الملفوف" بِقِطَع قماش، قالت: لقد حوصرنا قبل أسبوع داخل منزلنا الذي احترق بالكامل ونحن بداخله وخَرَجنا منه بصعوبة.. عرض أَحَد الموجودين مكانًا ينصبون فيه خيمتهم فقالت الأم: أثناء نومنا على الطريق بين المواصي ودير البلح الليلة الماضية سَرَق أحد اللصوص ما نَملك من خَشَب "وشوادر"️.. وأثناء الحديث حضر الزوج، وجَلَس في خيمة أَحَد الموجودين وقدّمنا لهم ما يحتاجون من طعام وشراب حتى الصباح!

هذه عائلةٌ حوصِرَت بالنار، باعَت هواتفها لتستطيع الهَرب من الموت إلى المَجهول، نام أفرادُها في الشوارع وبين الطرقات ثلاث ليالٍ، دَهَست سيارة أقدامهم أثناء النوم في الشارع، سرق لصّ ما يملكون من خَشَب ونايلون، نزحوا آلاف الأمتار مشيًا على أقدامٍ متعبين مجروحين مكسورين.. واختتم قشطة: "هذه ليست مناشَدَة، هذه قصّة عائلة واحدة من 450 ألف نازح من مدينة غزة باتجاه الجَنوب.. كَلِمة نزوح خلفها ملايين القصص والمآسي والموت..".

مَشاهِد النُّزوح تُذيب القَلب وتَنْهَش الرّوح.!

تَلتَقِط عينا الصّديقة الكاتِبة سماهر الخزندار صورًا بعُيون قَلبِها لتَصِف لنا رحلة الخُروج تحت القَصف والنّار من مدينة غزة باتّجاه الجنوب فتقول: "طفلٌ صَغير على دراجة هوائية بثلاث عَجَلات، مربوط إلى بُقجة مثبَّتة على لَوح خشبيّ بعجلات، مَربوطٍ بحبْل يَلتفّ على خَصر امرأة نحيلة متعَبَة مَقطوعَة النَّفَس، تَمشي نَحو المَجهول وهي تَعُدّ خطاها. رجل وامرأة مسنّان يمشيان يدًا بيد، بخُطوات بطيئةٍ على طَريق طَويل، يَحمِل الرَّجُلُ كرسيًّا بلاستيكيًّا، يتناوَبان على الاستراحة بالجلوس عَلَيه. عربةٌ محمَّلة بكومة عالية من الحَقائب والبقَج والأَدَوات، يجرّها شاب عشريني، وتَدفَعُ العربةَ من الوراءِ سيِّدَتان. شاب وشابة يمشيان جنبًا إلى جنب يَحمل كلّ منهما حقيبة ظَهر، يُدَرْدِشان، دونَ أن يَنظُر أَحَدهما للآخر، تَضحك الصبيّة، ثم تُلقي حقيبة ظهرها على جانب الطريق، وتَجلس فوقَها باكية، فيجلس الشّاب إلى جانبها صامتًا يَنظُر للبحر. سيارة سوبارو قديمة انهارت تحت حِمْلِها المَهول من "العَفْش"، نجا الركّاب بحياتهم، وتركوها تئنّ وحيدة على طَريق الموت. فتىً صغير يَجلس بجانب قفصٍ كبير، يَمسح عَرقه، ويشرب الماء من قنينة بلاستيكيّة ثم يُفرغ ما تبقّى في وعاء صغير لِقِطَطه في القَفَص. طفلٌ صغيرٌ حافي القدَمَين يَحمل طفلةً أصغَر منه على كتِفَيه لا يرى أحدهما الآخر، هو يَبكي، وهي تَضحَك. شابٌ نحيل يَحمل حقيبةَ ظهر كبيرة، ويجرّ لوحًا بِعَجلات تَجلس عليه امرأة مسنّة مكوَّمة كبُقجة عظام صغيرة. امرأةٌ نحيلة وحيدة تَمشي باكِية، وتدعو: "الله لا يسامحهم.. الله لا يسامحهم".

تَختِم سَماهر لَقَطات القهر والوجع على طَريق النزوح قائلة: "كلّ الوُجوه عابسة، يَمشي الناس متعَبين، خَفيفي الوَزن، ثقيلي الحزن، مَكسوري الخاطر، مشحونين بالغضب، ممزقيّن من الألم..".

لَحظَة الصّفر الغزّية...!

أما الصّحافي يوسف فارس فقد كَتَب في لَوعة النّزوح وجَبَروت المَوت وتلك الّلحظة التي يَنتَظِر الجَميع فيها معجِزَة ما ليبقوا محتضِنين بيوتَهم: "رُبّما كنُت أحمقًا في نظَر الكثيرين حينما تجاهَلت التّحذيرات والمؤشّرات الميدانية كلّها وبَقيت، واخترْت أن أَخرج من منزلي في اللحظة الأخيرة قَبل أن يُطبِق السّقف على رؤوسنا وتحاصرنا الدبابة، بفارق دقائقَ معدودة عن السّجن أو القتل، غير أن نزوحًا على هذه الشاكِلَة فيه الكَثير من المميّزات، على الأقل سَتَشعر بالإنجاز وستحمد الله كثيرًا لأنّك نَجَوت بروحك وعائلتك، ولَن تعاتِب نفسك وتلومها فيما بعد لأنّك استبدَلت عزّ بيتك بمهانَة النّزوح .. بوسعي أن أفهَم لماذا يتمسّك الناس ببيوتهم حتى لحظة الصِّفر الأخيرة، بل قد يَدفع البعضُ أرواحَهم ثمنًا لهذه «التَّناحَة». أَعيشُ في كلِّ لحظة ما يَشعرون، وهم يتمسّكون بخَيط الأَمَل، يتعلّقون بالرّجاء، بذلك اليَقين الخادِع -في حالتنا- بأن يدَ المُعجزة ستتدخّل في اللحظة الأخيرة وتنجّيهم من النّزوح الأخير، أَنا مِن قلوبِكُم الممزّقة يا أهلي، من دمعات عيونكم الأخيرة وأَنتم تُغادرون شَقاء العمر المثمِر إلى عذاب التّيه الأخير، أنا منكم يا أَهلي على مَقصَلة البَقاء، تحزّ عنُقي شَفرَتُها مع كلّ وتدِ خيمةٍ يُدقّ.. أنا منكم يا أهلي في عذابنا المَفتوح وعزائنا الأخير".

شارِع الرّشيد… طَريق الآلام

في شارع الرّشيد بِغزّة؛ طريق الآلام الغزّاوي، كَتَب عبد الكريم عاشور عن رحلة نزوحه قائلا: "يَحدُثُ في غزّة.. اليوم، بعد أن أنهكتنا رحلة التنقّل بين بيتٍ تهدّم وآخر لم يَعُد يصلح للعيش، وبين خيمةٍ بالية وأخرى أشدّ قسوة، أجد نفسي مُضطرًا لأن أَحمل ما تبقّى من العُمر، ومعي أبنائي وأحفادي، وأسير بهم إلى جنوب غزة… إلى المَجهول.. إنه شعور يُثقل القَلب قَبْل الجَسد: أن تغادِر مَكانَك وأَنت لا تَدري هل ستعود إليه أم ستُقتلع إلى الأبد. أتمنّى أن يكون هذا النزوح مؤقتًا، وألا يكون مقدّمة لتهجير جديد خارج هذه الأرض التي عِشنا عليها، ونزرع فيها ذكرياتنا كما نَزرع أشجارَنا. الأَشَدّ مرارَة من النّزوح نفسه، هو أن ندرِك اليوم كم خُدِعنا، وكم بِيعت لنا الأَوهام بأَبهى الشّعارات. سَنواتٌ طويلة ونَحن نُطعِم أنفسنا كلماتٍ جَوفاء عن "النّصر" و"الصّمود" و"المعجِزات"، بينما الحقيقة كانت تتآكَل أَمام أعيننا. أستَحضر كلّ الشعارات التي زُرعت في عقول الناس، بدءًا بمسيرات العَودة، أُمّ المعارك، غابات الزيتون، حجارة داود، عصا موسى، ولن ننسى الخاصِرة الرّخوة. كَم بَدَت هذه الشّعارات يومًا كأنّها مفاتيح الخلاص لبعض المغفَّلين وَهُم كُثر، فإذا بها تتحوّل إلى قيود من وَهْم، تُساق بها الجَماهير نحو سرابٍ لم ولن يكون".

ويضيف:"اليوم، وأنا أُغادِر غزة، أَحمل معي فقط حُزني ومَرارَة خيبَتي. لم يَعُد في القلب سوى حَسرة على وطن يتفتّت، وعلى أجيال تَدفع ثَمَن الخَديعة، وعلى حُلم بالعودة يترنّح بين الأمل والخذلان. ويَبقى السُّؤال يطارِدني: إلى أَينَ يأخُذُنا هذا الطَريق؟ وهل سيبقى لنا مكان على هذه الأرض لنَعود إليه، أم سيُكتب على قُلوبنا أَن تظلّ تائهة إلى الأبد؟!".

هداية صالح شمعون

كاتبة وإعلامية فلسطينية من قطاع غزة.

رأيك يهمنا