نَحوَ تَحويل التّضامُن الأُمَميّ إلى مَشروع سِياسيّ فاعِل

"أحببت شعبي حبًّا ملك عليّ مشاعري، وآمنت بأخوّة الشعوب إيمانًا عميقًا لا تحفظّ فيه". هذه مَقولَة خالدة للمؤرّخ د. إميل توما، تُعبّر بدِقة عن التّوازن والتّكامل بين الموقف الوطني والأممي وتمثّل معيارًا للتضامن الشّعبي والفطري مع المَوقف السياسيّ العادل؛ وإن كان ذلك تحدّيًا في عصر النيوليبرالية التي تَسعى لتَفكيك المجتمَعات وتقسيم الشعوب من خِلال فَرض خطاب الهويّات الفرديّة والحريّات الفرديّة كمعيار لـ "الديمقراطية والتقدّم"، فَضَرَب هذه البُنى الاجتماعية التي تتيح النّضال على أُسس قِيم تقدميّة تولي الثِّقل للهوية الإنسانية والوطنية والطبقيّة الجامعة لا لتلك الفرديّة – وبالتالي ضَرَب اليسار أولاً الذي يَستمد قوّته من الـ "نحن" الجامع. 

ارتبط التّضامن الأممي مع الشعب الفلسطيني كقضيّة سياسيّة ارتباطًا وثيقًا بالنضال من أجل التحرّر من الاستعمار وضدّ الفاشيّة والفصل العنصريّ، ورأينا منذ الستينيات توثيق الرّوابط النضالية والرِفاقيّة بين منظمة التحرير الفلسطينية، الممثّل الشرعي للشعب الفلسطيني، وحركات التحرّر الثورية - من فيتنام إلى كوبا، ومن إيرلندا إلى جنوب أفريقيا- قولاً وفعلاً؛ فالموقف من القضية الفلسطينية، وبالتالي من حقّ الشعوب في تقرير مصيرها، هو بوصلة أخلاقية وسياسية وفكرية. 

سَنَتان بعد حرب الإبادة، شَهِدنا الطوفان البشريّ في شوارع العَواصم والمدُن في أرجاء العالم من ملايين المحتجّين ضدّ الإبادة والتطهير العرقيّ ودعمًا لأسطول الحريّة الساعي لكَسر الحصار على غزة، ولو معنويًّا. خِلال العامين المنصرمَين، كسبت القضية الفلسطينية انكشافًا مجددًا، وحَشَدت مناصرين جُددًا من الأجيال الصّاعدة عزَّزَت فيها مَطالب الشعب الفلسطيني بالتحرّر من نير الاحتلال الإسرائيلي، وكَشَفَت هذه الحرب، مرّة أخرى، التّواطؤ الغربي السّافر والعباءَة الدبلوماسية المفروشة تغطيةً لجرائم الحَرب المتواصلة – مما جنّد غضَب المتضامنين ضدّ حكوماتهم ومطالَبَتهم إياها بالتحرّك واتخاذ خطوات فعليّة لوقف الإبادة وعَزل إسرائيل سياسيًّا. 

إن التّضامن الأَصدَق بين الشّعوب هو ذلك الذي يَرِبط المَواقِف المحلّية بالعالميّة ويتملّكها كجزء من النضال المحليّ للتحرّر والمساواة والعدالة؛ تتشكّل حركات التضامن مع فلسطين خارج العالم العربي مِن تيارات مختلفة -ومتنازِعة أحيانًا، ففيها الجاليات الفلسطينية والعربيّة ذات المَشارب السياسيّة المختلفة من يسار أو قوميين أو إسلاميين، كما هي حال مجتمَعاتنا - وهذا طبيعيّ. وفيها كذلك الأحزاب السياسيّة اليساريّة المحليّة، التي ولو اختلفت فيما بينها على القضايا المحليّة فإن أعضاءها يجتمعون على التضامن مع فلسطين. 

قد تَختلف أساليب النضال أو الرؤية لـ "الحلّ" – لكنّ دَورنا الأساس كيسار وكفلسطينيين في هذه الحركة الواسعة هو تسييس المَعرَكَة، والرّبط بين سياسات العَسْكَرَة وتَمويل حروب الهيمنة والاستعمار وبين نضالات النقابات والطبقة العاملة والنساء والمناخ، وأنّ سياسات العَسْكَرَة بالضرورة تأتي على حساب قدرة الشعب على دفع فاتورة الغاز والكهرباء والاحتياجات الأساسية – بينما توجَد الميزانيات دومًا للمزيد من الحروب؛ وأنّ سبب البلاء الأساسي هو الصناعات الكبرى التي توصِل كوكب الأرض إلى دمار بيئيّ، وليس المواطن البَسيط الذي "تُصيبُه الصَّفنَة" عندَ الكيس الأصفَر أو الأزرق في فرز النّفايات المنزليّة. 

نحن كفلسطينيين في الداخل، لسنا حقيقةً في موقع التضامن مع أنفسنا، لكنّنا نشكّل جزءًا مركبًّا وجوهريًّا من حركة مناهَضة الحرب والصهيونية – فمن جهة نحن فلسطينيون – الباقون في وطَنهم شَهادةً على قِسطِنا من الصّمود بعد النكبة وشهادة لاستمرارها، لكنّنا من جهة أخرى محرّك أساسي في حركة مناهضة الاحتلال والحرب من موقع مواطَنتنا ووجودنا في المجتمع الإسرائيلي. لا أدّعي أنّها حركة واسعة في إسرائيل، ورأينا ذلك خلال كلّ الحروب السابقة وتحديدًا حرب الإبادة الأخيرة، لكن أَرى أن من مسؤوليتنا توسيعها والمحاربة ضدّ وعلى الرأي العام الإسرائيلي لتَغييره في اتجاه إنهاء الاحتلال - وهذا أحد أَهداف النّشاط السياسي هنا في البلاد. 

عندما وُقّع اتفاق أوسلو كنت في الحادية عشرة من عمري، وظَنَنت في حينه أنه الآن سيكون لدينا دولة فلسطينية، وأنّ الانتفاضة الأولى أثمَرَت استقلالاً وسيادةً– ليتسنى لنا وأخيرًا التفرّغ إلى توجيه الجُهود كافة للنضال من أجل مساواتنا القوميّة والمدنيّة كجماهير عربية وكمواطنين، وأن الإسرائيليين سيفهمون أخيرًا أنّ هناك طريقًا آخر ممكنًا بالرغم من الماضي. والغَريب كان دومًا، أنّنا كفلسطينيين مستعدون للنظر قدمًا، أو بعضنا على الأقل، في سبيل وقف مأساة شعبنا في الأراضي المحتلّة وفي اللجوء. بَعد أكثر من 30 عامًا، خاصة في السنوات الأخيرة، فَهِمت حقًّا أنّ المهمّة الملقاة على عاتقنا كفلسطينيين وكقوى مناهضة للصهيونية في إسرائيل هي بالترتيب العكسي لما ظنّته الطفلة إيايّ – يجب تغيير النّظام في إسرائيل كي يتمكن شعبنا الفلسطيني من تحقيق الدولة، والاستقلال، والسيادة، والعودة. 

أذكر هذا لأنّه تحديدًا في هذه الفترة، وتحديدًا لأنّ الحرب على مستقبَل غزة قد بدأت للتوّ، مُلقاة على عاتِقنا مهمّة تعزيز الحِراك داخل إسرائيل بهذا الاتّجاه وفَضح ما تبقّى من "اليسار الصهيوني" الذي لن يكون بديلاً حقيقيًّا، فكلّ وأيّ يسار يسَتند إلى الصهيونية أو القوميّة كمنطلق فكريّ هو بالضرورة ليس يسارًا ولن يتمكّن من أن يكون شريكًا سياسيًّا حقيقيًّا للجماهير العربية الفلسطينية في البلاد. 

في تشرين الثاني يومان مهمّان – يوم إعلان الدولة الفلسطينية في الخامس عشر منه، ويوم التّضامن العالمي مع الشّعب الفلسطيني في التاسع والعشرين من الشّهر نفسه، ونَحن مِن مَوقعنا هنا علينا تَعزيز التواصل مع حركات التضامن واليسار في العالم بقوّة ووحدة مَوقف وصفّ – لأنّ القضية الفلسطينية ليست قضيّة "إنسانية-خيرية" تُختزل بإدخال الطحين والرز والتوسّل لوقف الإبادة والتهجير، بل علينا السّعي لاستثمار كلّ هذا الغضب الشعبي في العالم إلى مُطالبات عينيّة للضغط على إسرائيل، مثل قَطع التّعاقدات العَسكرية، لتتبناها وتُواصل دعمها والتّحشيد لأَجلها حركات التضامن وأحزاب اليسار والحكومات المُوالية حقًا وأولاً لمصالح شعوبها. 

رائجٌ اليوم في مختلف الحَرَكات والحِراكات أداء فعاليّات "المِخيال" (مجموعة تصورات جماعية) ومنها-مثلاً- "كيف نتخيّل فلسطين ودولة فلسطين" - فربما في اليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني، وبعد 77 عامًا على النكبة- يجب أن نَزيد إلى مضمون هذا المخيال تفصيلًا للطّرق الفعالة والعمليّة لتفكيك المنظومة الإسرائيلية بشكلها الحالي والتّأكيد على أنّ اليسار الأمميّ وحده هو القادر على تحرير الفلسطينيين واليهود من الصهيونيّة كفكر وممارسة استعمارية وفوقيّة عرقيّة، وتحويل ذلك إلى مُطالَبات سياسية داخلية وضغط دولي من أجل فرض إقامة الدولة الفلسطينية وتوفير الفُرَص الحقيقية لتطوّرها ولتحرّرنا. 

ريم حزان

ناشطة سياسيّة، ومترجمة. عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي الإسرائيلي ومسؤولة العلاقات الدولية فيه.

رأيك يهمنا