الإِعلام الإِسرائيليّ وَقَد ارتَدى البِزّة العَسكَريّة

شَهِد نِظام الإعلام والصّحافة الإسرائيلية تحوّلات كثيرة منذ قِيام الدولة وحتى اليوم. لم تكن هذه التحوّلات في اتّجاه واحد؛ فبينما كانت هناك فترات اتّسَمَت بالديمقراطية والليبرالية، شهِدت فترات أخرى تراجعًا نحو نمَاذج أقلّ ديمقراطية.

منذ ثلاثينيات القرن الماضي، في فترة ما قَبل قِيام الدولة، تبنّت الصحافة الإسرائيلية — التي كانت حزبيّة آنذاك (باستثناء صحيفة هآرتس) نموذجَ “الإعلام المُجنّد”، أي أنّ وسائل الإعلام كانت تَفرض على نفسها رقابة طَوعية تماشيًا مع توجيهات اللجنة الوطنية ومقتضيات المَصلحة الاستراتيجية للدولة المستقبليّة.

مَعَ قيام الدولة، استمرّت هذه النّزعة، وإن ظَهَرت بعض التغييرات مِثْل إنشاء صحف غير حزبية  (معاريف ثم يديعوت أحرونوت)، وبَدأت الصحافة تطوّر أنماطًا نقديّة تجاه المؤسسة الحاكمة، خصوصًا بعد “قضية لافون”.

حَدَث التطوّر الأبرز في الإعلام الإسرائيلي في منتصف السبعينيات، بعد حرب أكتوبر (1973)، وازداد وضوحًا في الثمانينيات على خلفيّة حرب لبنان المثيرة للجدل، خاصة بعد “قضية الحافلة 300” وكشْف أساليب عمل الشاباك. منذ ذلك الحين وحتى نحو عَقد مضى، أمكَن وصف الإعلام الإسرائيلي المركزي بأنّه نقديّ، بل “شَرِس”، إذ انتقل من نموذج الإعلام المجنّد إلى نموذج “المسؤولية الاجتماعية”، وهو قريب من النموذج الليبرالي السّائد في الديمقراطيات.

لا يُمكن فَصل الإعلام عن التّغيرات في الساحة الاجتماعية والسياسيّة. فكلّما تعزّزت النّزعات غير الديمقراطية والعسكرية، تراجَع الإعلام وابتَعَدَ عن نموذج المسؤوليّة الاجتماعية، وعاد إلى النموذج المجنّد الذي يَعمل بصفته لسانَ حال السلطة، مكرّرًا رسائلها، بدلًا من أن يكون إعلامًا مستقلًا، ناقدًا وباحثًا.

بَلَغ هذا التّدهور ذروته في الحرب الأخيرة على قطاع غزة. فإلى جانب التطوّرات التقنيّة، مِثل تأثير الإنترنت وشبَكَات التّواصل الاجتماعي التي أضعفت مكانة الإعلام التقليدي، بَرزت ظاهرة جديدة تمثّلت بسيطرة رجال المال على قنوات التلفزيون والإذاعة لأغراض سياسية واضحة، مقابل مكاسِب اقتصادية كبيرة. بَدَأت هذه الظاهرة مع صحيفة إسرائيل هيوم (الصحيفة الموالية لنتنياهو)، واستمرت بسيطرة رأس المال على القناة 13، وإنشاء قناة الدعاية القناة 14، التي تُستخدم لنشر التّحريض والكراهية ضدّ كلّ من ليس من أنصار اليمين أو مؤيدي نتنياهو. لا يهتم هذا النوع من الصحافة كثيرًا بالموضوعية (New Journalism) ولا حتى بالبَحث عن الحقيقة والعَمَل الهادف. 

في الحَرب الأخيرة، انهارَت جميع الحواجز: إِذ عاد الإعلام ليكون مجنّدًا بالكامل لصالح المَجهود الحَربي، مع بعَض النّقد الموجّه للحكومة وقراراتها. فقد تجنّدت وسائل الإعلام الرئيسة — تقريبًا كلّها باستثناء صحيفة هآرتس —  ضد الفلسطينيين، لا ضدّ "حماس" فقط. وقد وفّرت المنابر الإعلامية مساحة لآراء عنصريّة تجاه الفلسطينيين، وصلت إلى حدّ تبرير قتل الأطفال الفلسطينيين بزعم أنّهم “سيكبرون ليصبحوا إرهابيّين”. لم يُندِّد أحد بهذه الأقوال، بل إن القنوات التلفزيونية منحتها شرعيّة، واستضافت أيضًا دعوات لإلقاء قنابل نووية على الفلسطينيين، وتَصريحات من مَشاهير ومطربين مثل إيال جولان وكوبي بيرتس تَكاد تَصل إلى حدّ الدعوة للإبادة الجماعية.

من السِّمات البارزة في معظم وسائل الإعلام الإسرائيلية، وخاصة القنوات التلفزيونية، ظاهرة “العَسْكَرة” المتزايدة، حيث تحوّل المراسِلون العسكريّون إلى متحدّثين باسم الجيش يردّدون بياناته دون أيّ نَقد، والمراسلون لشؤون العرب صاروا أشبه بمتحدّثين باسم الشاباك بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.

تُعتبر الصحافة بطبيعتها نظامًا للتنشئة الوطنيّة وآلية لتَعبئة الدّعم للأهداف والمَصالح والرموز القومية. وقد وَصَف الباحث بيلِيج هذه الظاهرة بدّقة عندما تحدّث عن “التّلويح اليومي بعَلَم الوطن” في الإعلام، خصوصًا الشّعبي والجماهيري، الذي يهدف إلى توحيد الجماهير خَلف الرّاية القومية وتبرير أفعالها. مثال على ذلك التّغطية الإعلامية لمباريات كرة القدم، التي تُستخدم كوسيلة للتعبئة والاصطفاف ضدّ “الآخر”. وكما قال فوكوياما، القومية هي من الأيديولوجيّات القديمة التي تَلاشَت في ظلّ “النظام الجديد” (نهاية التاريخ)، لذلك تُعتَبَر هذه السلوكيّات نوعًا من دفاع القوميّة عن نفسها أمام القيم الكونيّة الحديثة.

في وسائل الإِعلام الإسرائيلية المركزيّة، خاصة القنوات التلفزيونية، امتلأت الشّاشات ببرامج مطولة شارك فيها بالأساس ضُباط وجنرالات سابقون، وسياسيّون (معظمهم من اليمين)، إلى جانب مؤثّرين اجتماعيين. والقاسم المشترَك بين أغلبهم أنّهم يهود، من ذوي الخلفيّات الأمنية، يتنافسون في مَن يبدو أكثر “وطنية” وتشددًا، وكثير منهم يحمل مواقف عنصريّة صريحة، وجميعهم تقريبًا يمجّدون السياسة العسكرية، وإن كانوا ينتقدون أداء الحكومة أحيانًا. والمفاجئ أنّه رغم هذا النّقد للحكومة، فلم يكن للإعلام أيّ تأثير حقيقي على سياساتها في إدارة الحرب.

من الجوانب المهّمة التي تميّز الإعلام، ليس فقط في إسرائيل بل أيضًا في الغرب، طابَعَه النيوليبرالي الذي يرسّخ فوقيّة الإنسان الأبيض — وفي الحالة الإسرائيلية، اليهودي — على غيره، كالعرب عامة والفلسطينيين خصوصًا. فالعالم كلّه تعرّف على أسماء القتلى والمخطوفين الإسرائيليين وصُوَرَ وجوههم، في حين لم يُبدِ الإعلام أيّ اهتمام بأسماء الضحايا الفلسطينيين أو ملامحهم، وكأنّهم بلا هويّة أو أحلام أو حقوق إنسانيّة. ولم يُستخدم مصطلَح “مدنيّين” إلّا كعِبارة مخفّفة تُشير إلى “غير المتورّطين”، في إنكار واضح لإنسانيتهم.

أمّا صحيفة هآرتس فقد تميّزت بموقف إعلامي أَخلاقي؛ إذ مَنَحَت مساحة لأصوات غير عربيّة من صحافيين وضيوف ذوي مواقِف غير تقليديّة، وكانت وسيلة الإعلام الوحيدة التي أعطَت أسماء ووجوهًا للأطفال الفلسطينيين القتلى، وانتقدت بشجاعة سلوك الجيش والضّرر غير المتناسب الذي ألحَقَه بالمدنيين. برَزَ في هذا الاتّجاه الصحافي الشّجاع والمحلّل المعروف جدعون ليفي (إشارة: أنا كاتب في صحيفة هآرتس وأعرف جدعون منذ سنوات طويلة).

انتهت الحرب — مؤقَّتًا — دون أن تُظهر وسائل الإعلام العالميّة اهتمامًا حقيقيًّا بمصير مئات آلاف الفلسطينيين. لم يكن هناك تقريبًا أيّ اهتمام بعمليات التهّجير، وتدمير غالبية بيوت غزة، وقتل عشرات الصحافيين والعاملين في مجال الإعلام. فقد انكَشَفت وسائل الإعلام الغربية على حقيقتها: إعلام مكرّس أساسًا للإنسان الأبيض، أقلّ التزامًا بحقوق من يُعتبرون أدنى مكانَة، كالعرب والفلسطينيين.

أمّا الإعلام الإسرائيلي عمومًا (أو الأدق تسميته “الإعلام اليهودي”) فقد بقي مُجنّدًا وأحاديّ الجانب، بعيدًا عن أيّ قيم إعلامية متعارف عليها مثل الموضوعيّة، العدالة الأساسية، أو الدفاع عن الأبرياء.

ربما ينبغي على بيلِيج اليوم أن يُحدّث دراساته ليتناوَل بعمق النظريّة النيوليبرالية في الإعلام، التي تُكرّس الهرميّة في مكانة البشر، وليس فقط القومية، في تعارُض صارخ مع القيَم الجوهرية للديمقراطية وكرامة الإنسان أيًّا كان.

د. سليم بريك

محاضر وباحث في العلوم السياسية.

رأيك يهمنا