التّضامُن الدّولي مَع فلسطين: تَحَدّيات كُبرى، ونَوافِذ دُبلوماسيّة

اختَلَف التضامن مع الشعب الفلسطيني بشَكل عامّ، ومع الحكومة الفلسطينية، بَعد السابع من أكتوبر، وتمّ التّعبير عنه بأشكال مختلفة، أهمّها الخروج إلى الشّوارع والتّظاهر في العواصم العالميّة كلّها، تحديدًا بعد مرور الأشهُر الأولى، وسرعان ما تحوّل التضامن المَعهود مع دولة الاحتلال إلى تضامن مع الشعب الفلسطيني. حَدَث ذلك بَعد أن شاهَد العالم كله ردّة الفعل الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني في غزة، التي استمرّت عامَين وفاقت المَنطِق والعقل، مستثمرة الحَدَث من أجل تصفية الشعب الفلسطيني، عَبر ارتكاب المجازر والقتل الجماعي والتجويع وإجبار المدنيين على النزوح واستهداف المستشفيات والمدارس والملاجئ.
أثار هذا كلّه الخوف لدى البلدان الأوروبية، وانطلق باتجاه التضامن الإنساني والسياسي، وتأكيد حقّ الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، والدعوة إلى الاعتراف بالدولة الفلسطينية كنوعٍ من رَدع الاحتلال الذي يصرّ على مَنع قيام دولة فلسطينية بأيّ شكلٍ من الأَشكال وبالسُبُل كلّها، وصولًا إلى التضامن مِن خلال القانون الدولي والشرعية الدولية وقرارات الأمم المتحدة، بما يشمل الانتهاكات الإسرائيلية السابقة لذلك التاريخ في الضفة الغربية.
حرَّك الشّعور بمخاطر السياسة الإسرائيلية على الإقليم كلّه الوارِدِ جرّه إلى حروب مدمِّرة (لبنان، سوريا، إيران واليمن) ما قد يُفضي إلى حرب عالمية، المجتمعَ الدوليّ للتضامن مع فلسطين رسميًا وقضيةً وشعبًا وإن كان بوتيرة اتسمت بالبطء نوعًا ما، خاصة في ظلّ تجاهل الإدارة الأمريكية لما يَجري، وتصاعُد تطرُّف حكومة الائتلاف الإسرائيلية، مع التّرويج الإسرائيلي المستمِر لتحديد الخَيارات في خنوع الشعب الفلسطيني أو تهجيره أو قتله، مع تغافلٍ كامل لشعب اسمه شعب فلسطين، وتصاعُد السرديّة الإسرائيلية التي تتعمّد شطب فلسطين من التاريخ.
لقد أحدَثَ الموقف الشعبيّ العالَمي المتمثّل بالمقاطعة وأمور أخرى، تحولًا في شَكل التضامن، ونَقَله من إنساني إلى سياسيّ، يتضح ذلك بالاعترافات الجديدة بالدولة الفلسطينية، إذ تحوّلت فلسطين إلى محور العالم كلّه، وظهر مصطلح جديد يسمى "فلسطنة".
تَضَع هذه التطوّرات السياسية تحدّيات كبيرة أمام الحكومة الفلسطينية، منها:
قضايا إعادة إعمار قطاع غزة المرتبِط بالتمويل الذي غالبًا ما يكون مشروطًا من المانحين، وهذا تحدٍ بحدّ ذاته، وهناك تحدّ مهم وضروريّ للنهوض بالحالة الفلسطينية، يتمثّل بإنهاء الانقسام الفلسطيني، والعمل على إنجاز الوحدة الوطنية. كما لا يمكِن تجاهُل العراقيل التي تَفرضها دولة الاحتلال مِثل التحكّم بالمعابر، سواء الحركة أو البضائع، إلى جانب الحواجز العسكرية والسيطرة على جزءٍ من قطاع غزة، ما يُعيق إعادة إعمار القطاع الغارق في الركام.
يتمثّل التحدّي الثالث في إدارة الأزمة الإنسانية والمجتمعية، والتعامل مع البنية التحتيّة المدمَّرة من كهرباء ومياه وصرف صحي، وقطاعيّ الصحة والتعليم، يحتاج هذا كلّه إلى خطط شاملة، ولا يمكن إغفال الصحّة النفسية وإعادة تأهيل من نَجَوا خصوصًا من خَرجوا من الحرب بأطراف مبتورة، وهم عشرات الآلاف، يضاف إلى ذلك الأيتام والأرامل، وما يرتبط بالأمر من مَعونات إنسانية ونفسية و.... إلخ.
أعتَقِد أنّه يتوجّب على الحكومة الحفاظ على المكاسِب السياسية وتوظيفها في التصدّي للتعنّت الإسرائيلي، يبدأ ذلك بحكومة وحدة وطنية تتولّى ملفات الإعمار والمساعَدات الإنسانية، إلى جانب شَراكة فعلية بين المؤسّستين الرسمية والمدنية تبتَعد كلّ البعد عن الفصائلية، وبناء خُطة طارئة لذلك، يمكن التوجُّه بها إلى المحافل الدولية.
من ناحية أُخرى، اعتقِد أنّه من المهم الخروج إلى العالم باللغة التي يَفهمها، أيّ توثيق الجرائم والانتهاكات الإسرائيلية بالإنجليزية ولغات أُخرى نخاطِب بها العالَم الخارجي، فالفلسطينيّ المقيم في فلسطين يُدرِك كلّ شيء، نحن بحاجَة إلى مخاطبة الآخر الذي يَسبقُنا الاحتلال في مخاطبته والّلعب على مشاعره، لأنّه ببساطة يمتلك أدوات التوجّه لذلك الغرب الذي يدرُسُه جيدًا ويَعرف كيف يصل إليه، بل ويصّور نفسه له ضحية تستحق التضامن والتعاطف.
يُذكَر أن هناك تحدّيات دبلوماسية أيضًا تقَع على عاتق الحكومة، منها الضّغط السياسي على إسرائيل عبر تجنيد مزيد من الدعم الدولي، من أجل العمل على حلّ الدولتين لا الحديث عنه فقط، ومحاولة استمالَة الموقف الأمريكي الداعم الأول والأقوى لدولة الاحتلال. ولا يمكن إغفال العلاقات الفلسطينية العربية تحديدًا مع الدول التي طبَّعت مع إسرائيل قَبل السابع من أكتوبر، ما يَعني ضَرورة بناء تَحالفات دولية جديدة مع دول تتبنّى مواقف داعمة للقضية الفلسطينية، والتوجّه إلى محكمة الجنايات الدولية لملاحقة الاحتلال بسبب جرائم الحرب التي ارتكبها في غزة، والانتهاكات التي تمارس أيضًا في الضفة الغربية على البَشر والحجر، كما التوجّه الدولي لمواجهة الأوضاع الإنسانية المأساوية التي تمارَس بحقّ الأسرى بعد ذلك التاريخ، وترسيخ دور الإعلام في طَرح السرديّة الفلسطينية والرواية الحقيقية من خلال الاعتماد على الإعلام العالمي القويّ.




