وَقَعْنا في "مَصْيَدَة" الإِعلام الإِسرائيلي - فأَخفَقَت قِراءاتُنا لإِسرائيل!

بَعد مرور عامين على الحَرب التي اندلعت بَعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، ما زال سؤالنا الجَوهري قائمًا: لماذا تبدو تحليلاتنا لإسرائيل قاصِرة عن الإِحاطَة بالواقع، وكأنّها تدور في حَلَقة مفرَغة من الانطباعات الشخصيّة والتفسيرات المعلّبة؟
لَعَل هذه الحرب كانت كاشفةَ حَجمَ الفجوة بين ما نتصوّره عن إسرائيل وما يجري داخلها حقًّا، فقد كَشَفت لنا أن كثيرًا مما يُقدَّم للرأي العام العربيّ تحت لافتة التحليل السياسي لا يتجاوز نقلًا مباشرًا أو إعادة صياغة لِما تبثّه وسائل الإعلام الإسرائيلية، دون الاستطاعة -بشكل عام- على تَفكيك الروايات أو قراءة البُنى العميقة للمجتمع الإسرائيلي. جَعَلنا هذا الاكتفاء بالمعلومة الجاهِزة نَستهلك خِطاب الآخر بدلاً مِن إنتاج خطابنا المستقلّ، حتى صرنا أحيانًا نُعيد إنتاج سرديّات الآخر وكأنّها حقائق مسلَّم بها.
رُبّما تسألُ نفسَك: هل المُشكلة في نَقص المَعلومات، أَمْ في أدوات الفَهم نفسها؟ إن الصورة التي تَصِلنا عن إسرائيل غالبًا ما تكون مشوًّهة أو مَبتورة، لأنّها تُبنى على مُخرجات إعلامية مسيَّسة أو اختيارات ترجمة انتقائية. يَلعَب الإعلام الإسرائيلي دورًا محوريًا في توجيه الإدراك العام، فهو لا يَنقُل الأَخبار فحسب، بل يَصنَع رواياتٍ متكاملة تتماشى مع الأجِندات السياسية والأمنية. وَمَع كثافة الضخّ الإعلامي في اتّجاه واحِد، يُصبح الوعي العربي أَسيرًا لصور مُعدّة سلفًا، تَزرَع في ذهنه تصورًا ضيّقًا عن مجتمع شَديد التّعقيد والتناقُض.
التّرجمة، مِن جانبها، ليست بالضرورة نافذةً مفتوحة على الحقيقة كما قد نتصوَّر، فهي أحيانًا مجرَّد مرآة مَشروطة بما يختاره المترجِمون والوسائل الإعلامية. حتّى ما يَصلنا مِن كتب وأبحاث إسرائيلية يَخضع في الغالب لاعتبارات تجاريّة أو سياسيّة، ما يجعل القارئ العربي محصورًا في سرديّات محدَّدة مسبقًا.
إنّنا في كثير مِن الأحيان نَقرأ ما أرادَ الآخرون أن نقرَأَه، فَنَصنَع صورة ذهنية عن إسرائيل قاصرة أو قد تكون أحيانًا بعيدة عن واقعها المتعدّد الأبعاد. إذ لا يُمكِن فَهم جَدل المجتمع الإسرائيلي وأزماته الداخليّة بعمق من دون قراءة نصوصِه الأصليّة، ولا سيما أن كثيرًا من النّقاشات الحسّاسة تبقى حبيسة اللغة الأم العبرية.
قد يقول قائل: إن التيارات النقدية داخل إسرائيل تقدّم لنا فُرصة لرؤية مغايرة. وهذا صحيح إلى حدّ ما، لكن علينا أن ننتَبه إلى أن تيار "ما بعد الصهيونية" وأصوات المعارَضة، مهما كانت جَريئة، يَظلّ هامشيًّا في الساحة الإسرائيلية. يَكشِف هذا التيّار أوجهًا مهمّة مِن البنية الاستعمارية، لكنّه لا يَعكس المِزاج العام ولا يمثّل التوجّهات الرسمية. إنّ الاعتماد على الرّوايات النقديّة والتمسّك بها وحدها لتَشكيل رؤيتنا لإسرائيل قد يؤدّي إلى أوهام، تجعلنا نتصوّر أن النقد الذاتي الإسرائيلي ظاهرة راسخة، بينما هو محدود التأثير. وهنا يظهر الخلل الأكبر: نحن نَبحث عن صورة مُريحة لعقلنا السياسي، لا عَن فهم شامل ومعقّد لمجتمع مختلف الأعراق والأَشكال والمَشارب.
إذا نَظَرنا بتمعّن إلى الإعلام الإسرائيلي نفسه، سنجد أنه منظومة متكاملة لإدارة الوَعي، وليس مجرّد ناقلٍ للخبر، فهو ذراع من أَذرع السُلطة. فهناك الأخبار الجزئيّة التي تَكشِف القليل وتُخفي الكثير، والتسريبات المحسوبة التي تُنشر لاستدراج ردود أفعال، وحملات التّهيئة التي تَسبق القرارات الكبرى، والرسائل النفسيّة الموجهة للفلسطينيين والعرب، وصولًا إلى المبالغات المَقصودة التي تُضخّم قوة الفصائل ثم تُكذَّب لاحقًا لِتُحدِث صدمة لدى المتلقي العربي. هذا ليس إعلامًا تقليديًا، بل جزء من أدوات الحرب التي تشنّها إسرائيل داخليًا وخارجيًا، وتُدير بها الصراع على العقول والوعي.
قد تَتَساءل أيضًا: لماذا يَبدو المحلّل الإسرائيلي أكثر دِقّة وتأثيرًا من نظيره الفلسطيني أو العربي؟ الحقيقة أن الأَمر لا يرتبط بالقدرات الفرديّة بقدر ما يرتبط بالمَوارد المُتاحة. يعمل الصحافي الإسرائيلي في بيئة تتيح له الوصول إلى المعلومات، ويستفيد من مؤسّسات بحثية وإعلامية قوية، بينما يواجِه الصحافي الفلسطيني قُيودَ الاحتلال وضَعفَ البنية التحتية وصعوبات العمل في بيئة محاصرة. يَجعل هذا التَّفاوت التحليل الإسرائيلي أكثر ثراءً بالمعطيات، لكنّه لا يعني بالضرورة تفوقًا فكريًّا، بل هو مؤشر على خَلَل أعمق في بنيتنا الإعلامية والمعرفية التي لم تُستثمَر كما ينبغي لتنتج خطابًا قادرًا على مواجهة الروايات المنافسة.
الحقيقة أَنّ هذا النقاش كلّه يقودنا إلى سؤال جوهريّ: هل نحن بحاجة إلى إعادة النَّظر في الطريقة التي نتعامَل بها مع إسرائيل معرفيًّا؟ الإجابة: نعم، وبشكل جذري. لا يُمكننا الاستمرار في الاعتماد على ترجَمات جزئية أو تغطيات إعلامية موجَّهة ثم نتوقّع أن نبني تحليلات استراتيجية. نَحن بحاجة إلى مشروع معرفيّ عربي حقيقي، يَتَجاوز التلقّي السلبي نحو إنتاج معرفة نقديّة عميقة، تَنظر إلى إسرائيل باعتبارها مشروعًا استيطانيًا معقدًا لا يمكن فهمه بالانطباعات ولا بالاختزال.
يَبدَأ هذا المشروع من أساسيّات تبدو بسيطة لكنّها حاسمة: تَعَلّم اللغة العبرية كَشَرط أساسي لكنه ليس كل شيء، والاطّلاع المباشر على الأبحاث والكتب والسِّجالات الإسرائيلية، والانخراط في تخصّصات دقيقة تُتيح قراءة تحولات المجتمع الإسرائيلي من زوايا متعدّدة، والانفتاح على العُلوم السياسية والاجتماعية. ويمتد ليشمل بناء مراكز بحثيّة عربية قادرة على رصد التغيّرات وتحليلها باستقلالية، بعيدًا عن الانجرار خلف السرديّات الجاهزة. في هذا المقام، فإنّ المَعرفة ليست ترفًا ولا رفاهيّة فكريّة؛ إنّها أداة تحرّر.
بَعد عامين على الحَرب، تَبدو الحاجةُ ماسَّةً إلى وَعي جديد، وَعي يرفض التّسطيح. إسرائيل ليست مجرّد كيان سياسي يُدار مِن شخص بعينه، بل منظومة متشابكة من التاريخ والاقتصاد والعقيدة والأَمن، ولا يمكن التّعامل معها إلّا بخطاب يَتَجاوز التّحليل اللحظِي نَحو فَهم عميق وواقعي.٠٠

ياسر منّاع
باحث متخصص في الشأن الإسرائيلي، ومرشح لنيل درجة الماجستير في الدراسات الإسرائيلية من جامعة بيرزيت.