نُزوح يَقْهَر الرّوح

عُدت منهَكًا من السوق، العَرَق يتصبّب من جَسدي، وَلَجْتُ بيتي شبه المدَّمر، كان فارغًا من الأثاث، حتى المطبخ كان في حالة يُرثى لها، فقد نَقَلت زوجتي وابنتي مجد وابني أسامة الأثاثَ كلّه إلى غرفة ابني أنس، الغرفة التي سَقَط جدارُها الشرقيّ لكنّها بَقِيت تحافظ على رشاقتها، المَشهد يُثير الخَوف، والرّعب، ورهبة تجتاحني. قَلبي منقَبِض، نبضاتُه تَرتَفع وتَنخفض بشكل غير منتَظَم: إلى أينَ سنذهب؟ وهل سنَجِد ملاذًا آمنًا في مكان لم يُخلَق يومًا للسلام؟ وحتى ذلك الوقت كيف يمكنني توفير "مواصَلَةٍ" لنَقل بعض أغراضي؟ إذ دمَّر الاحتلال جميع الشاحنات والباصات والسيارات وعربات الكارو وغيرها، باستثناء القليل مما بقي في جنوب القطاع أو منطقة الوسطى، وأصحاب تلك الشاحنات يَطلبون المال الكثير بِسِعر يفوق حجز تذكرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، رغم شحّ المال وعدم توفُّر السيولة، كما أنَّهم لا يَحضُرون إلّا بشقّ الأنفس، وبتثاقلٍ كبير، لدرجة أنك قد تحصل على مَوعد للنزوح بعد أسبوع.
طالَعَتني زوجتي وهي تقول: "تْعِبنا يا رَب"، حضنتُها وأنا أوشِك على البكاء، صدقًا أُريد أن أبكي. يا إلهي كيف لمثلي أن يعجَزَ عن التفكير؟ كيف يَصل إلى هذا الحال وقد كنت مخطِّطًا استراتيجيًا لكلّ مَن حَولي. لَقَد ادْلَهَمَّ الأمر، وباتَ الحليم حيرانًا، تمامًا كما جرى معي بداية حرب الإبادة هذه، يوم خَرَجنا إلى مقر الأمم المتحدة (UNDP) ومن هناك إلى جباليا، نعيش الجوع والعذاب.
كان الحضن مشبعًا بالخوف العظيم، كأني أهرُب به إلى آخر الدنيا، وهي تتمتم: "شو العمل يا يسري؟!" وقد كنت عائدًا لتوّي من رحلة بحث عن طعام، وكذلك عن سائق شاحنة يمكنه أن يوصلنا إلى منطقة الزوايدة، أو أيّ مكان خارج مدينة غزة التي تتعرّض للتدمير كلّ دقيقة، "مِشْ عارف، والله عنجد مِشْ عارف".
لَحَظات دافئة، رافَقَها طلقات تزنّ في الفضاء، ثم بعد دقيقة واحدة تنفجر قنبلة فسفور محرّم دوليًا؛ نعم قنبلة فسفور أبيض، فنحن في غزة صرنا نَعرف كلّ أنواع الرصاص والقذائف والصواريخ والطائرات، تعلَّمنا كلّ شيء خلال عامين من "دبلوم إبادة" لا يرحم طفلًا أو امرأة أو حتى عجوزًا طاعنًا في الحزن. يتقدّم صغيري رؤوف ووجهه متعرّق نتيجة العمل المضني في تقطيع الأخشاب التي حَصَل عليها من الكنبة المتبقّية في البيت، وكي لا يَلتبس الأمر على القارئ، فقد منع الاحتلال إدخال غاز الطّهي منذ بداية الحَرب، باستثناء فترة الهدنة التي استمرت شَهرين أو أقل، تعلّمنا خلال تلك الفترة كيف نستثمر الألم؛ فالطائرات الحربيّة لا تحبّ الألوان، لذلك عمدت إلى تحويل كلّ شيء إلى رمادي داكن، مع إدخال بَعض التعديلات في لوحة الدمار السوريالية، من خلال حرقِ الشُقق الجميلة، أو كتابة بعض الجُمل والكلمات البشعة التي تشبه أرواحهم، كأنّهم أعداء الجمال، والرمل لا يَنسى، وكذلك الجدران التي حَمَلت شهادات التقدير والتكريم، وطاولات الطعام والكراسي والأثاث الفاخر الذي تم إحراقه، كلّه/ كلّه لن يَنسى الجنودَ الذين تلطّخت أيديهم بقتل ما تبقّى من حياة في مدينة محاصَرة، وأسامة يبتسم دون أن يأبَه لصوت طائرة الاستطلاع التي تنعق في السماء، ربما هي "سوبر هيرون"، ربما "هيرمز"، وربما "سكاي لارك"، لا يَهُم، فالفكرة أن الطائرة تتلصّص علينا ونحن نخرّب بيوتنا بأيدينا، نقوم بفكّ إطارات الأبواب. جاري يُلقي بسرير النوم على الأرض، فيُحدث جَلَبة جراء تكسره إلى قطع كثيرة، وجاري الشاب ارتكب تلك الخطيئة لأنّه يريد بيع ما تبقّى من الأخشاب للآخرين الذين يبحثون عن حَطَب من أجل استئجار شاحنة تقلّ ما تبقّى من "عَفْش" البيت إلى الجنوب، هذا السرير الذي ربّما حمل علاقات حُب مجنونة، وسَهرات لا تنتهي مع رفيقة دَربه وربّما عشيقات أخريات، صديقي الذكيّ يحاول أن يدمر كلّ ذلك من أجل النَّجاة فقط، النَّجاة من موت محقّق، فالجنود الذين يَحضرون إلى المدينة، يحاصرونها ثم يرسلون أرتال المدرَّعات التالفة، المحمَّلة بالأمونيا والقنابل المتفجرة -والتي تحمل اسم الروبوت- لتنسف كلّ البيوت والأجساد، لا يأبهون بالشاب الذي يقف أمام المرآة كثيرًا كي يصفّف شَعره، فهو يسعى لاستمالة جارته التي تنتظره وهو عائد من منطقة "زيكيم" بعد رحلة عذاب من أجل الحصول على مساعدات إنسانية عبارة عن معلّبات قليلة من الفول والحمص وربما التّونة، كي يَبتسم في وجهها، فَتُغني في قلبها كلّ العصافير، وتَصير الحياة في عينيها بستانًا أخضرَ، رغم الأبراج المدمَّرة التي تُحاصر المكان، وبعد لحظات يَحضُر الشاب نفسه كي يُعطي "الحجَّة" علبة فول حَصَل عليها بشق الأَنفُس، كي يَحظى بغمزة من عين الفتاة المجنونة أيضًا.
والجندي الذي لا يُحبّ أشجار الزيتون، لا يَعرف أن ابني أنس لم يستَطع الحصول على شهادة الثانوية العامة منذ عامين لأنّ رفاقه المدججين بالحقد على كلّ ما هو عربي، قاموا "بالواجب وزيادة" حين دمّروا المدارس التي تحوّلت إلى مراكز إيواء، ثم قَتَلوا المعلّمين والطلبة، وبقي عدد قليل منهم يناضل لأجل الحصول على تلك الشهادة العلمية التي لا تَعني السيد ترامب أو حتى وزير التّعليم الفلسطيني. فأنَس الذي يجلس إلى جواري الآن، ينظر إلى لوحة الكيبورد وأنا أكتب دون أن يَعرف ماذا أفعل، فهو زائغ النَظَرات الآن وهي إشارة عن عجزه في حلّ أحجية رياضيّة ما، ثم يعود ليقرأ منهمكًا مادة الرياضيات، لأن غدًا هو الامتحان الثاني لتلك المادة الدَّسمة، وهو غارق بينها وبين صوت الصواريخ التي تُزلزلنا بعدما سَقَطت على أبراج المدينة، يَنزل مرّة أخرى إلى الطابق الأرضي خوفًا من شظيّة لا تأبه لحُلُمه في دراسة الهندسة قد تصيبه دون قصد، ثم يَصعد ليواصل القراءة، ولا أعرف كيف لهذا الشاب ومَن هُم على شاكلته أن يَستمروا في القراءة؟ كيف يَبحثون عن الإنترنت لأجل تقديم الامتحان إلكترونيًا؟ كيف يَجِدون الكهرباء وقد تم تدمير كلّ مقومات الحياة في غزة؟ فالعتمة سِمة بارزة في هذه المدينة اليَباب، وشَحْن الهواتف النقّالة و"اللاب توب" أمر تعجيزي لأيّ مواطن هنا، حتى وأنا أكتُب هذه الشهادة لا أعرف كيف سأواصل الكتابة في حال فَرَغَت البطارية، وأين سأذهب لشحنها بعدما هَرَب نصف جيراني إلى منطقة دير البلح والوسطى؟
أثناء ذلك، أتطلّع من شُباك الغرفة على صوت جَلَبة لشابين يَختَصمان لدى رجل أربعيني في الشارع، زائغ العينين بينهما، تَشي حركات الجسد بأنّهما مثلي يبحثان عن الأمان، يَقومان بعمل تفريغ نفسي وانفعالي بالصُراخ، حتى أُدرِكَ من خلال الصوت المرتفع أنهما يتشاجَران لأجل الهَرَب من المنطقة التي أَسكُنها، لأن السائق الطمّاع تعاقد مع أَحَدِهما، ثم جاء الآخر على حين غَفْلة واتفق مع السائق على دَفع مبلغ أكبر كي يقوم بنقل الأثاث الخاص به أولًا، وحين تنتهي الجَلَبَة أعود إلى الكتابة، أواسي نَفسي بالحروف، كي لا أفقِد الشعور بالحياة، وكي تظلّ هذه الكلمات تاريخًا يسجل هزيمة الإنسان أمام الوحش الذي يُمارس معتَقَدَه الديني بحقّ إخوته الذين يشبهونه في الشكل واللون، وقد خُلقوا جميعًا من رحم أُمّ واحدة وكذلك أبٍ واحد.
أَقومُ تاركًا جهاز الحاسوب، أتأمّل الشارع ومشاهد النزوح التي توجِع القلب؛ نساء متلفّعاتٌ ملابسَ الصلاة، وجوههنّ قاحلة السواد، يمشين بتعب بحجم الكون، يَحملن في أيديهن فراشَ أطفالهن وأغطيتهم، يحملن أشياء أخرى، والرّجال يحملون أكياس الطحين، بينما يشاهِد الله كلّ ذلك ولا يفعلُ لأجلهم شيئًا.
أعودُ لتأمل بَطنَ زوجتي الذي بَدأَ يكبر، وأَضحَك، تقول لي بابتسامة جميلة تشبه نسمة باردة في يومِ قائظ: "إيش فيه؟" فأقول وأنا مُنتشٍ لفُرط جنوني: "سأرزق بطفل رغم أنني من أنصار العوائل الصغيرة"، إذ فوجئت قبل عدة أشهر من أنّ زوجتي حامل، فقد شَعَرَت بتعب شديد ثم تأخَّرت عنها لاحقًا دورتها الشّهرية، لذلك قُمنا بفحص الحمل، وتبين أنّها حامل رغم أنني بلغت من العمر 45 عامًا، وهي في عامها الأربعين. لدرجة شعرت معها أن الأمر رسالة بأن الفلسطيني لن يموت ديموغرافيًا، وفلسطين لا يمكن لها أن تَغفر أو تَنسى الإبادة في غزة، حتى لو هاجرت كلّ العوائل إلى آخر الدُنيا، وحتى لو قَتَل الجنود سكان القطاع كلّهم، لأنّ الشَجَرَة نَبَتَت من الدمّ، والدّم على الجِدار، وصارت "الفلسطينيّة" هوية للإنسانية في رُبوع العالَم كلّه، لِشَعب يَسعى لنيل الحريّة، ولو كلَّفَه الأمرُ حياتَه.
عَزيزي القارئ،
باختصار، وبَينما تقرأ هذا المقال، فإن كاتِبَه المعروف "يسري الغول" يتعرّض لأَقسى أنواع التّرويع، أسوةً بجيرانه الذين هَرَبوا من المَوت قبل قليل، بينما يُقاتِل العَتمة كي تَصِل الرسالة إلى العالم، لعلّه يوقف إبادة الإنسان، لأنّ الدّمَ لن يجلِب إلّا الدَّم، ولَو بَعد حين، والخوفُ شيطان سيَسري في جَسَد العالّم كلّه بما في ذلك إسرائيل التي لا يُمكِن لها أن تخالِف النَواميس، ولا يُمكن لها أن تُخالِف سنّة الكون.

يسري الغول
روائي وقاص باقٍ في شمال غزة.