اتّفاق شَرم الشّيخ: مِصرُ إِذْ تَمشي على خَيطٍ رَفيع

قَبل أسابيع قليلة، وتحديدًا في منتصف أكتوبر 2025، احتضَنَت مدينة شرم الشيخ جولة جديدة من المباحَثات السياسية حَول مستقبل السلام في المنطقة، بمشاركة مصريّة فاعلة وحضور دوليّ مكثّف. كان الحَدَث هذه المرة مختلفًا في تَوقيته ونبرَتِه، إذْ جاء وَسَط مَشاهد دامية في غزة واستقطابٍ عربيٍّ وعالميٍّ غير مَسبوق. وبينما كانت الوُفود تتبادَل الكلمات في القاعة، كانَ الشارع المصري والعربي يتابع بعينٍ قلقة وأخرى متطلّعة للأمل.

لم يكُن الأَمر مجرّد مؤتمر دبلوماسي عابر، بل لحظة أَعادَت إلى السّطح سؤالًا قديمًا متجدّدًا: ما معنى السّلام حين يُعقد في زمنٍ تغيب فيه العدالة؟ في المقاهي وعلى مواقع التّواصل، كان الحوار دائرًا حول شرم الشيخ من زاويتين متقابلتين—من رأى في الاجتماع خطوة ضرورية لإعادة ضبط البوصلة السياسيّة، ومن اعتبره اختبارًا جديدًا لمصداقيّة الدور المصري في الدفاع عن القضية الفلسطينية ضمن معادلة معقّدة تجمع بين السلام والكرامة.

لَم يمرّ اتفاق شرم الشيخ الأخير كَحَدث بروتوكولي فقط، بل تَرَك وراءَه نقاشًا واسعًا عن حدود التضامن، وعن مَوقع مصر بين الواجب الإنساني والحسابات السياسية.

في الحقيقة، لم تَعُد مدينة شرم الشيخ مجرّد منتجعٍ سياحيٍّ كما يَعرِفها العالم، بل صارت رمزًا للسلام المُمكن في عالمٍ غير مستقرّ. شهِدَت هذه المدينة عبر العقود محطاتٍ مفصلية في تاريخ المنطقة، لكن اجتماع هذا العام جاء في لحظة حرجة تجعل كلّ خطوة محسوبة، وكل بيانٍ مثقلًا بالمسؤولية. أصبحت الكلمة التي تَخرج من قاعة المؤتمرات هناك تُقرأ على وجوه الناس في القاهرة وغزة والقدس، لأن مصر ليست دولة مراقِبة من بعيد، بل هي جزء من المعادلة الكبرى في الصراع والسلام معًا.

من يَعيش في القاهرة أو الإسكندرية أو حتى في قرية صغيرة على النّيل يَعرف أنّ القضية الفلسطينية ليست ملفًا سياسيًا بعيدًا. هي حاضرة في حياة المصريين، في أحاديثهم، في وجدانهم الجمعي، وفي إحساسهم بالهوية. عندما يتألّم الفلسطيني، يشعر المصري بالوجع ذاته، ليس فقط بدافع العروبة، بل لأن التاريخ والموقع والجغرافيا جعلت من المصيرين توأمين لا يمكن فصلهما. لكن في السنوات الأخيرة، صار التضامن يأخذ أشكالًا جديدة. لم تَعُد المظاهرات وحدها تعبّر عن الموقف، ولا البيانات الحماسيّة كافية لردّ الظلم. صار التضامن المصري أكثر نضجًا، يتحرك في العمق الاجتماعي والثقافي، في الفنون والإعلام والمبادرات الشعبية.

فَتَحَت اتفاقية شرم الشيخ الأخيرة، رغم ما حملته من وعودٍ بالتهدئة وخطط اقتصادية لإعادة الإعمار في غزة، البابَ مجددًا أمام سؤالٍ جوهري: هل يُمكن أن يتحقّق السّلام دون عدالة حقيقيّة على الأرض؟ 

يُدرك المصريون أن الورق لا يَحسم النزاعات، وأن أيّ محاولة لبناء استقرارٍ في المنطقة يجب أن تَنطلق من الإقرار بحقوق الشعب الفلسطيني، لا من تجاوزها. لذلك، بدا النقاش في الشارع المصريّ بعد المؤتمر أشبه بمحاكمة مفتوحة لفكرة "السلام المشروط". 

مصر، بحكم موقعها الجغرافي وثقَلها السياسي، تجد نفسها دومًا في موقع الوساطة. ربما هذا هو قدرها ودورها التاريخي في الوقت ذاته. فمن سيناء التي دفَعت ثمن الاحتلال إلى شرم الشيخ التي تسعى اليوم لتثبيت السلام، تمتدّ خيوط السياسة المصرية بين الألم والأمل. لقد تعلّمت مصر أن السلام لا يُفرض بالقوة وحدها، ولا يتحقق بالعزلة، بل بالحكمة والقدرة على الحفاظ على التوازن بين المبادئ والمصالح.

لكن المسؤولية لا تقع على الدولة وحدها، فالتضامن الشعبي مع فلسطين هو ما يمنح الدور السياسيّ روحه. في الأشهر الأخيرة وعلى مدار عمر الأزمة، شهدنا في مصر عشرات الحملات والمبادرات لدعم الأشقاء من غزة: تبرّعات غذائية ودوائية، واستقبال لعشرات الجرحى بالمستشفيات المصرية، وحملات إلكترونية لفضح الانتهاكات، وأغانٍ جديدة تعبّر عن الغضب والأمل معًا. يعكس هذا كلّه استمرارَ نبض التضامن الذي لم ينطفئ رغم مرور العقود.

صحيح أن معادلات السياسة تغيّرت، وأن لغة المصالح صارت أكثر حضورًا في العلاقات الدولية، لكن يبقى للمصريين إحساس فطري بأن مصيرهم مرتبط بما يجري غرب سيناء. القضية الفلسطينية بالنسبة لهم ليست “قضية الأشقاء” وفقط، بل قضية تخصّهم شخصيًا. في نظرة الأم التي تبكي صور أطفال غزة، وفي كلام الشاب الذي يجادل في المقهى عن جدوى السلام، كلّها تعبيرات إنسانية متجذّرة ترفض أن تنسى.

لهذا، لم يكن اتفاق شرم الشيخ الأخير خاليًا من العاطفة. فكلّ بيان يصدر من هناك يُقرأ في ضوء ذاكرةٍ طويلة من الوعود والمخيّبات، من الصّراع بين الحلم والواقع. المصريون يريدون سلامًا لا يُهين كرامة أحد، بل يُعيد للمنطقة توازُنها الإنساني قبل السياسي. كثيرون يرون أن مصر، رغم صعوبة اللحظة، قادرة على أن تكون نموذجًا لتوازنٍ نادر: دولة تحافظ على علاقاتها الدوليّة لكن دون أن تتنصّل من مسؤوليتها الأخلاقية تجاه فلسطين.

أَكتُب هذه السطور بَعد أسابيع من انتهاء قمة شرم الشيخ، وأَشعُر أنّ صَداها لم ينتهِ بعد. فالقضية لم تُغلَق، والنقاش لم يهدأ. ربما كان الاتفاق خطوة ضرورية نحو تهدئة مؤقتة، لكنّه في الجوهر تذكيرٌ بأن السلام لا يكتمل إلا حين يجد الناس العدالة، وأن مصر بكلّ ما تحمله من ثقلٍ تاريخي وجغرافي لا تَزال قادرة على أن تُعيد تعريف مفهوم السلام في المنطقة.

في النهاية، لا أرى أن ما جرى في شرم الشيخ مجرّد حدث سياسي يُضاف إلى أرشيف المؤتمرات، بل لحظة تكشف جوهر الدور المصري المعاصر: الجمع بين صوت الدولة وصوت الناس، بين الحكمة والسيادة، بين الواقعية والمبدأ. تعرِف مصر التي وُلدت من رحم المعارك جيدًا أن كلفة الصمت لا تقل عن كلفة الحرب، وأن السلام بلا كرامة ليس سلامًا حقيقيًا.

ربما هذا هو الدرس الأهم من قمة شرم الشيخ الأخيرة—أن التضامن لا يُقاس بعدد الشعارات، بل باستمرار الإيمان بأن الحرّية ممكنة، وبأن العدالة، مهما تأخّرت، تظلّ البوصلة التي يجب أن لا تنكسر. ما بين السّلام والحقّ، ستظلّ مصر تسير على خيطٍ رفيع، لكنّها ستظل تسير، لأن مكانها الطبيعي دائمًا في الجانب الذي يختاره الضمير الإنساني.

أحمد سبع الليل

ناشطٌ وباحث مصري في قضايا المناخ والتنمية المستَدامة، شَغَل عضوية مجلس الشباب العربي للتغيّر المناخي (2022-2024)، وهو مؤسّس منصّة "المناخ بالعربي".

رأيك يهمنا