عامَان عَلى حَربِ الإِبادَة في غَزّة.. فَماذا بَعد!

تُكمل حربُ الإبادة في غزّة عامَها الثاني، بِواقع 24 شهرًا؛ أَي 730 يومًا، دون أن يبدو أَيّ أُفق حتى الآن لنهاياتها ومآلاتها، سواءً على مستوى القِطاع نَفسه أو القضيّة الفلسطينيّة عمومًا.. بل والمنطقة برمّتها.

لا جِدال في أنّ ما شَهِدناه طيلَة سنتين، يتجاوَز حُدود العقل والإدراك والاستيعاب، بالنَّظر إلى حَجم الأَحداث غير المسبوقة، بدءًا من مشهديّة الإبادة المستمرّة في غزة على مرأى العالم كلّه، مرورًا بتجاوُز الحَرب وتداعياتها حدود القطاع، بحيث شَملت ساحات لبنان واليمن وإيران، وبمستوىُ وشَكلٍ مختلفين في سوريا والعراق، مُحدِثَة تغيّرات إقليمية مفاجِئة، بَعضها مَحسوس وآخر مُستَتر. كما يَبدو أنّ عُموم المَنطقة على مَوعد مَع مَزيد من الأحداث الدراماتيكيّة خلال الأشهر القادمة، ارتباطًا بسيرورة الأَحداث وتطوّراتها الظَرفية والحتمية في سياق حرب اتخذت نطاقًا إقليميًا ودوليًا بطريقة أو بأخرى.

الواقعُ أنّنا تغيّرنا جميعًا على نحو لم نتخيّله، وبنواحٍ قد لا نكون قد أَدرَكناها بالضرورة، جرّاء أحداث كبيرة ومتلاحقة منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، حتى إسرائيل نفسها تغيّرت وستتغيّر على نَحو قد تَجِد فيه نفسها ذات يوم في الأَمد المتوسط وتراكُميًّا مختلفة سياقًا ومضمونًا. وبالطَّبع، ليس الفلسطينيون والمنطقة العربية بمنأى عن رُزمة المفاجآت السابقة والّلاحقة، التي قد تَقود إلى متغيّرات لا يمكن التنبؤ بماهيتها وسياقها؛ ذلك أن حلقة الأَحداث وسيرورتها لم تنتهِ بَعد، عدا أن الحَرب في غزة شكّلت نقطة تحوّل تاريخية في مَسار المنطقة برمّتها، وفَرَضت تساؤلات بشَأن مدى صلاحيّة المنظومة الدوليّة في ظلّ عَجْزها عن ممارسَة دورها، ووضع حدّ لحلف اليمين الأميركي-الإسرائيلي الذي يتجاوز "استاتيكو" الدّولة العميقة، ويقوم ببَعثرة الأوراق في محاولة لرَسم منطقة جديدة على طريقته

جاءَت محاوَلة الاغتيال الفاشِلة لقادة حركة "حماس" عَبر هجوم إسرائيليّ غير مسبوق على العاصمة القَطريّة الدوحة، لتتصدر مساعي اليمين الإسرائيلي لبَعثرة أوراق المنطقة، وهذا عدوانٌ تجاوزت أهدافه مسألة اغتيال هؤلاء القادة، إلى محاوَلة المَساس بمكانَة قطر الإقليمية، وإِبعادها عن دَور الوَساطة في مفاوضات وقف إطلاق النار في غزة، بل وتحييد أيّ دَور مستقبليّ لها في القطاع، والدَّفع نَحو بُروز أدوار لدول عربيّة أخرى.

تُؤَكّدُ هذا الاستنتاجَ أمورٍ ومعطيات عدّة، أبرزُها أن الجيش الإسرائيلي بدأَ في الأيام والأسابيع الأولى لحرب غزة، بإيعاز من المستوى السياسي، بقصف وتدمير جميع البنى التحتيّة والشوارع والمشاريع والأماكن السكنية التي موَّلتها قَطر في القطاع، وهذا أَمر أكّدته مصادر محلية في القطاع منذ الأيام الأولى للحرب. وصاحَبت ذلك حملة دعائيّة نفّذتها جهات إسرائيلية لاستبعاد الدوحة من الوَساطة وتَحييد أيّ دور حالي أو مستقبلي في القطاع والملف الفلسطيني، تارةً بذريعة أنها "ليست وسيطًا نزيهًا"، وتارة أخرى باتهامها باحتضان "حماس" ودعمها.

ثُمّ جاء مقال نَشَره موقع "ألما" الذي يمثّل الجَناح المتشدّد من الاستخبارات الإسرائيلية، ليكشف مؤخرًا مآرب تل أبيب من الهُجوم على قَطَر، وما سَبَقه ولحقه من حملة دعائية ضدّها، حَيث حاوَل المَوقع الإسرائيلي التّرويج لزَعم آخر، عَبر وَصف قطر بـ "حليفة لإيران".

لَم يقدّم موقع "ألما" مُعطيات تُثبت مزاعمه المتساوقة مع اليمين الإسرائيلي الحاكم، سوى سَرد كليشيهات ومزاعم عامّة وتفسيرات سطحية ومبتذلة، ثُم بَعَث الموقع الإسرائيلي بتوصية للمستوى السياسي، تَدعوه إلى تنظيم حملة مكثّفة ضدّ قطر، تَستهدف إقناع الولايات المتّحدة بفكّ التّحالف مع قطر وتحييد دورها الإقليمي، وإبراز دولة عربية أُخرى كوسيط حَصري، بموازاة الدعوة ضمنًا لإفساح المجال لدول عربية محدَّدة كي تلعب دورًا في اليوم التالي للحرب على غزة، وبملفات إقليمية أخرى.

قَبل ذلك، حاولَت مواقع إسرائيلية أخرى التوقُّف عند ما أَسمَتها "القوّة النّاعمة لقطر" في أوروبا، مُدعية أنها سبب استنفار الدول الأوروبية وإدانتها الشّديدة للهجوم الإسرائيلي على الدوحة في أيلول/سبتمبر الماضي.

والحَال أنّ دافِع الحَملة على قطر، هو اعتبار اليمين الإسرائيلي بأن دورها يتَعارض مع مشروعه وتصوّره للمنطقة التي يُريد ترسيخها بقوة النار والعنتريّة، ما يَدفعه إلى محاولة إنهاء دَورها، وتَعزيز أدوار دول أخرى تَقبَل أن تؤدّي مهام منسَجمة مع المُخطّط اليميني الإسرائيلي-الأميركي. بهذا المعنى، فإنّ الحَمَلات الإسرائيلية الممنهَجة على الدوحة لم تكن فقط استهدافًا لدورها الدبلوماسي والإنساني، بل محاولةً لتقويض نَموذجها المستقلّ في التّعامل مع القضيّة الفلسطينية وملفات المنطقة.

مَع ذلك، تَبرز تحوّلات ومتغيّرات إقليمية وعالمية يُمكن التّعويل عليها لمواجهة مخطط اليمين الإسرائيلي الحاكم، بينها خسارة إسرائيل معركَة الصورة أمامَ الرّأي العام العالمي، وتطوّر ذلك إلى صُعود مواقف أوروبية وعالمية رسمية غير مسبوقة، تُرجِمَت بانتقادات لحرب الإِبادة في غزة والتّطهير العِرقي في الضفة الغربية، إضافة إلى موجَة اعترافات بالدولة الفلسطينية. عدا أن دولًا عربية -أبرزُها السعودية- تَستشعر خطرًا إسرائيليًّا على المنطقة كلّها، وأنّ ضرباتها في إيران، وقَفصها في الدوحة، فيها رسالة تهديد إسرائيلي لدول المنطقة كلّها بلا استثناء. كما تَبرُزُ لغة دبلوماسية هادئة بين إيران والسعودية في الأَشهر الأخيرة، وصولًا إلى دَعوة الأمين العام لحزب الله نعيم قاسم الرياضَ لفتح صفحة جديدة مع الحزب.. وهي كلّها عوامل تؤشّر إلى ولادة فُرَص جديدة لإمكانية إنشاء تَحالفات إقليمية جديدة لمحاولة الوقوف في وَجه الغَطرسة الإسرائيلية التي تَستهدف المنطقة كلّها.

إلى جانب ذلك، تَبدو الانتخابات الإسرائيلية المقرّرة بعد نحو عام، عاملًا مؤثرًا على سيرورة الأَحداث الحالية والقادمة، بالنظر إلى أنّها ستحسم المستقبَل السياسي لليمين الإسرائيلي الحاكم، بينما تُحاول الدول الأوروبية من خلال اعترافاتها بالدولة الفلسطينية وانتقاداتها الحادّة لممارسات إسرائيل في غزة والضفة والمنطقة، أن تؤثر على مزاج الناخب الإسرائيلي، عبر تخييره بين انتخاب يَمين يتسبّب بالضرر لإسرائيل وعلاقاتها مع "الحلفاء الأوروبيين".. وبين انتخاب المعارضة بوصفها "المُنقِذة لإسرائيل من خَطَر يمينها المتطرّف".

لكن، لا بدّ من الواقعية أيضًا، فالعوامل سالفة الذِّكر تَبقى فرصة قد تساهم إلى جانب عوامل أخرى في التّصدي لمخطّط اليمين الإسرائيلي وتحالفه مع اليمين الأميركي، وهذا ما يَدفع إلى عدم الاستهانة بجدواها إذا ما تمّ استثمارها بالسّرعة والكيفيّة المَطلوبة، خصوصًا أنّ دول المنطقة تتّفق على ضرورات تقليل الضرر والخسارات الناجمة عن حرب تجاوزت حدودَ غزة بالمعنيين الاستراتيجي والتكتيكي.

أدهم مناصرة

صحافي فلسطيني يعمل في الإنتاج الاخباري والسياسي التلفزيوني، إضافة إلى عمله معدا ومقدما لبرامج إخبارية وحواريّة إذاعية لنحو 15 سنة. كما يكتب باستمرار تقارير ومقالات سياسية واجتماعية، وأخرى ذات صلة بحرية الرأي في العديد من المواقع والصحف العربية والمحلية. وكان قد عمل مديرا لراديو يمن تايمز في العاصمة اليمنية صنعاء عام ٢٠١٣.

رأيك يهمنا