العَالَم في فَرّازَة غَزّة: مَنْ مَعَ الضَحيّة؟ مَنْ مَعَ الجَلّاد؟

أَدمى العُدوان الإسرائيلي غزّة وأَصابَها بجروح بَليغة لا تلتَئِم وتَصْعُب بَلْسَمَتُها، ولَن يلفّها النّسيان. نكبةٌ فظيعة جديدة حلّت بفلسطين والفلسطينيين، ولَن تمرّ تَداعياتها على خَير.

لكنّ فتيان القِطاع وفَتَياته، شيبَه وشبابَه، كِبارَه وصغارَه، حوّلوا بصُمودهم الأُسطوريّ وثَباتِهم في أَرضهم وتَعاليهم على الأَلَم، الصّراعَ بين محتلّ غاصِب وشَعب أعزَل إلى امتِحان عالميّ: مَن يَقِف مع العَدالة والإنسانيّة، ومن يقف ضدّهما؟ من يؤيّد الظالم، ومن يتضامَن مع المَظلوم؟

دَفَع لبنان غاليًا ثمَن مساندته غزَّةَ ولا يزال يَدفع بأرواح أبنائه وبِنيانه وعِمرانه. واليمَن فَعَل كذلك، ونال بدوره قسطًا وافرًا من العدوان والدّمار والحصار. حوّلَت ثورة غزة الإسرائيليّ ثورًا هائجًا يدمّر ما استطاع تدميره في لبنان وسوريا والعراق واليمن وصولًا إلى قطر ويصَنَع شرقَ أوسط على مقاسه، لكنّ جنونَه لم يكُن بِلا حِساب أو مساءَلة.

ليسَ تفصيلًا عابرًا ما جَرى في شَوارع المدن الغربيّة من أَشكال التضامن مع غزة وأهلها في وجه الإبادة الإسرائيلية التي يتعرّضون لها. مَسيرات الشوارع، واحتجاجات الفنانين والرياضيين، وتجمّعات التضامن، وسفن "الصّمود"، وبَيانات الإدانة، وتوالي الاعتراف الغربيّ بدولة فلسطين في الأمم المتحدة...

يَقول القائلون إنّها لَن توقِف المَجزَرة ولن تَردع إسرائيل عن مواصلة إجرامها. صحيح، لكنّ ذلك لا يغيّر من حقيقة أنّ لكلّ كلمة معنى، ولكلّ فعلٍ ردّ فعل، ولكلّ مبادَرة وزن، ولكلّ تراكُم قيمة زائدة. ليست الكارثة في النكبة، بل في الصّمت عليها وتركِها تمرّ بلا سؤال أو حساب.

ما حَصَلَ من أجل فلسطين في شوارع العواصم الكبرى والجامعات هو حَرَكة ضمير عالَميّ لا يجوز الاستخفاف بها. لم تكن احتجاجات النواب الأوروبيين على سياسات حكوماتهم المنحازة لإسرائيل مناورات سياسية، بل إعلانًا أخلاقيًّا من قَلب المؤسَّسة الأوروبية، بأن التّغاضي عن قَتل الأَبرياء في غزة هو خيانة للقيم الإنسانيّة. الضّمير الأوروبي لَم يَمُت، ولا يزال فيه نبض رفضٍ للمشاركة في الجريمة.

حتى بريطانيا، صاحِبة الوَعد المشؤوم، لم تستَطع الإفلات من الاعتراف بدولة فلسطين. عبّرت شوارع مُدنها عن وعيٍ بريطانيٍّ جديد يُعيد النَّظر في السرديّات التي ساهَمَت نخَبها السياسية والثقافية في صُنعها وتحريفها وتعميمها.

عَشرات التّظاهرات، ولندن لم تكلّ. تظاهرَ الآلاف في عزّ الحرّ وفي ظلّ البرْد القارس، ولَم تَمنَعهم الشيطَنَة ولا قرارات الحَظر. لم تكن المَسيرات حكرًا على السُمر والمهاجرين أو المسلمين، بل كانت خليطًا يعبّر عن التنوّع المجتمعيّ البريطاني الواسع، بما في ذلك اليهود المناهضون للصهيونية. لم يكن محرّكها الأحزاب والنّقابات والجمعيّات والكنائس والمساجد، بل حالة تضامن إنسانيّة عابرة للجنسيّات والأديان والمَجموعات.

الشّوارع النّرويجية والسويدية والإيرلندية والبرتغالية واليونانية والإسبانية والكنديّة وغيرها لم تهدَأ: تظاهرةٌ تِلوَ التّظاهرة، عِمادُها الشّباب والطلاب، نُخَبُ المستقبَل وجيل جديد متحرّر من سطوة "التفوّق الأخلاقي" لإسرائيل وعقدَة "اللاساميّة".

لم تكُن حركة الاحتجاج من أجل فلسطين وغزة حالة محليّة تُدار وفق المصالح السياسية الضيّقة، بل حالة ثقافيّة عابرة للحدود والانتماءات السياسية والأيديولوجية، تجلّت خصوصًا في أسطول الصّمود العالَميّ لكَسر الحِصار عن غزة.

ساهَمَت سفن الأسطول التي انطلَقَت من موانئ عالميّة عدّة وتَضُم ناشطين من 44 بلدًا في إعادة الزّخم العالميّ لحركة التضامن الإنساني مع الشعب الفلسطيني.

أظهَرَت استطلاعات الرأي في أوروبا وأميركا والغرب عمومًا تحوّلًا في نظرة الشباب إلى إسرائيل. قارَنَ قِسم كبير منهم بَين معامَلَتِها للفلسطينيين ومعامَلَة النازيين لليهود، واتهمها بارتكاب "جريمة الجَرائم" على الهَواء مباشرة. وهذا ليس أمرًا بسيطًا أو عابرًا.

لم تتشكّل هذه الخُطوات بقرار سياسيّ، بل وُلدت من رَحِم المأساة، قائمة على إدراكٍ إنسانيٍّ مشترَك بأنّ ما يجري في غزة ليس شأنًا بعيدًا، بل جريمة تهدّد الضَّمير العالَميّ كلّه. وعلى رمزيَّتها، تَحمِل دلالات عميقة: أنّ القضية الفلسطينية لم تَعُد شأنًا خارجيًّا يمكِن تجاهله.

يَرى المُواطِن الأوروبي هَول المجزرة ويَسمع في الوقت نفسه تبريرات حكوماته عن دعمها غير المَشروط لإسرائيل على حساب رفاهه، ما يَخلِق فجوَة بين المَصالح والضّمير لا يُمكن رَدمها بالخطابات البرّاقة.

كلّما اتَّسَعَت رقعَة حرَكة التضامن العالَميّ مع فلسطين، ترسَّخت القضيّة الفلسطينية في الأذهان والسّياسات، وتأكّدَ أنّ الفلسطينيين ليسوا وحدهم.

في المُقابِل، كُلّما انتَقَل الرّأي العام الدّولي من مَوقِع التّأييد المطلَق لإسرائيل إلى مَوقع المندّد بها، زادَت عزلتها السياسية والدبلوماسية، وصارت محاصَرة ومنبوذة، مهما كان الدّعم الأميركي المطْلَق لها.

تَوسيع عُزلة إسرائيل هو أيضًا إحراج للولايات المتحدة ولو على مَضَض، وربما كان هذا السّبب الرئيس الذي دَفَع دونالد ترامب إلى الضّغط على رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو للقبول بوقف النّار في غزة.

هذه التّحَولات، التي ينقُصُها تحرّك عربي موازٍ، لا تَعني تغييرًا فوريًّا في السّياسات، لكنّها خطوَة في مَسار طَويل ومعقّد يحدّ من قُدرتَها على فَرض الهيمنة المطلَقَة والتفرّد بحُكم العالَم.

أهم ما في قرارات الاعتراف الأخيرة أنّها حَدَثت رغم الاعتراض الأميركي وهَيَجان الرفض الإسرائيلي.

إذا استمرّ هذا التّيار العالَميّ في الاتّساع، فإن إسرائيل سَتَجد نفسها في عزلة شبيهة بتلك التي واجهها نظام الفصل العنصريّ في جنوب أفريقيا. قد يَستغرق ذلك سنوات، لكنّه مسار تاريخيّ لا يمكِن وَقْفُه.

السّؤال اليومَ لم يَعُد: "هل أنت مع فلسطين أم مع إسرائيل؟" بل أصبح: "هل أنت مع الضحيّة أم مع القاتل؟ مع القيَم الإنسانية والعدالة أم مع الإبادة الجماعية وإرهاب الدولة؟".

عُمْر القضية الفلسطينية مئة عام، ولن تُحلّ غدًا. وفي مواجهَة التشاؤُم، لا بدّ من بعض التفاؤل يعزّزه تمسّك أسطوري لأهل غزة والضفة بأرضهم، والتّعامل مع التحرّكات الدبلوماسية وحركة التضامن العالَمية كخطوات في الاتجاه الصحيح، يجب استثمارها سياسيًّا وحقوقيًّا لتعزيز الصمود، وتحصين الداخل الفلسطيني، وتطوير المشروع الوطنيّ الجامع، حتى لا تَضيع تضحيات غزة في زَحمة المآسي، ولا تُنسى فلسطين في زَحمَة العناوين.

رأيك يهمنا