حينَ يَتْعَب التّضامُن: قراءَة في التّراجُع الفِلِسطيني- الفِلِسطيني

في زمنٍ تتكثّف فيه صُور التضامن العالمي مع فلسطين، تَبدو ملامِح التضامن الداخليّ أكثر هشاشة وتشتتًا. فبينَ الانقسام السياسي وتآكل الفَضاءات المدنيّة وتعمّق الإنهاك النفسي والاجتماعي، يَعيش الفلسطيني اليوم مفارَقةً مؤلمة: تضامن العالم مَعَه أكثر مِن تضامُنه مع ذاته.
لا يُمكن فَهم هذا التّراجع دون النظر إلى الجَذر الأعمَق: الانقسام بين قُطبيّ النظام السياسي الفلسطيني، الذي لم يبقَ مجرّد خلاف في الرؤى، بل تحوّل إلى واقع جغرافي وسياسي واقتصادي فَصَل الضفة الغربية عن قطاع غزة.
أَنتَج الانقسام منظومتَين سلطويتين متوازيتَين، تتعامل كلّ منهما مع التضامن كمجال يجب ضبطُه لا إطلاقه، ومع الفضاء المدنيّ كمساحة ينبغي تَأطيرها لا تَمكينُها. فصار التضامن مشروطًا بالولاء، والانتماء يُقاس بمدى الصّمت أو التّماهي، والاختلاف يُفسَّر كاصطفاف مع الطرف الآخر.
تحوّل مفهوم التضامن إلى فعل فئويّ لا وطنيّ، وأصبح من يَنتقد طَرفًا بدافع المساءَلة المجتمعية متَّهَمًا بالانتماء للطّرف المقابل. وفي كلتا الحالَتين، سواء في الضفة أو في القطاع، فإن العَواقب لا تكون بسيطة.
لكنّ الأزمة لا تقتصِر على طرفيّ الانقسام (فتح وحماس). فالأحزاب والتنظيمات الفلسطينية الأخرى، التي يُفترض أنّها مكوّنات أصيلة في النظام السياسي، انسحبت إلى هامش الفِعل العام، أو لعبت دَور "طَبْشَة الميزان" لترجيح كفّة هذا أو ذاك وفق المصلحة الّلحظية.
بينما كانت هذه الأحزاب ذاتها في الانتفاضة الأولى من أهمّ روافع التضامن الشعبيّ والتّأطير الجَماعيّ، أصبحت اليوم أَحَد أسباب غيابه بتردّد مواقفها ومغازلتها طَرَفيّ الانقسام بدَل أن تكون جسرًا لإنهائه.
إلى جانب العامل السياسي، يواجِه الفلسطيني إنهاكًا نفسيًّا مركَّبًا. فمن جهة، يعيش تحت ضغط الأخبار اليوميّة القادمة مِن غزة وما تحمِله من صور الدمار والمجازر، ومن جهة أخرى يواجِه في الضفة انتهاكات واعتقالات وغيابًا للأمان.
يخلق هذا التوتّر المستمرّ حالةَ من "اللامبالاة الدفاعيّة"، وهي آليّة نفسية تحاول من خلالها الجماعة حماية ذاتها مِن الأَلَم عبر الانسحاب العاطفي. ومع تفاقُم الأزمات الاقتصادية والطبقيّة في المجتمع الفلسطيني؛ موظفون لا يتلقّون رواتبهم، وعمال فَقَدوا أعمالهم، وأُسر تعيش تحتَ خطّ الكرامة، تتعمّق الفجوة بين الوعي الجَمعيّ والخلاص الفردي.
كأن لسان حال الفرد الفلسطيني يقول ضمنيًّا: "أنا أتحمّل ما يكفي، ومعاناتي هي شكل تضامني".
ونراه أيضًا عندما نَرى البَعض لا يتردد في إلقاء المهمَلات في الشوارع، في حين أنّه من المستحيل أن يفعَلَها في حديقة منزله أو في داخل منزله، وهو ما قد يعكس كيف أنّ هذا الفرد يَرى ملكيّته بمنزله، لكن لا يَشعر بهذه الملكيّة في الشارع والوطن.
رغم ذلك كلّه، لا يمكن القول إن روح التضامن ماتَت؛ بل إنها تغيّرت أشكالها ومساحاتها. فبينما نَبحَث عن التضامن في قَوالبه القديمة، قد نتَغافَل عن أشكاله الجديدة التي تنبض بالحياة في فضاءات أخرى.
فاليوم، يَبتكر الفلسطينيون طرقًا جديدة للتّعبير والمسانَدَة: من صناعة المُحتوى الرقميّ الذي يوثّق الانتهاكات ويفضَح رواية الاحتلال، إلى حَمَلات التّمويل الجَماعيّ التي تُعيد بناء ما دمّره القصف، إلى المبادَرات الشبابية التي تتدخّل إنسانيًّا وتسدّ الفجوات حيث تتعثّر المؤسسات الكبرى.
شَهِدنا مثلًا خلال العدوان على غزة في أكتوبر 2023، كيف بادَر شباب من الضفة إلى تنظيم تدخّلات إنسانية عاجلة لدعم العمال الغزّيين الذين رُحّلوا قسرًا من الداخل المحتل. في الوقت الذي كانت فيه الوكالات الأمميّة والمؤسسات الدولية تتخبّط، وتتقدم للتدخّل بحذَر وارتباك، كانت هذه المبادَرات، رغم تواضُع مواردها، الأكثر سُرعة وفاعليّة، وأَظهرَت جوهر التضامن الفلسطيني حين يكون نابعًا من المجتمع نفسه، لا مفروضًا من أعلى.
إن التضامن ليس شعارًا يُرفع في الأزمات، بل ممارسة أخلاقية يوميّة تبدأ من الشّعور بالملكية في الشارع.
وهو أيضًا دعوة لإعادة بناء العقد الاجتماعي الفلسطيني على قيم المشاركة والمساءَلة والمسؤولية المشتركة.
ربما تَعِبَ التضامن من ثِقَل الانقسام، ومَطرقة الاحتلال وسنديان الأوضاع الاقتصادية، لكنّه لم يَمُت.
إنّه فقط ينتظر أن نُعيد تَعريفه، لا كشعار سياسيّ، بل كخيار إنساني نمارسه في تفاصيلنا اليوميّة الصغيرة، وفي قُدرتنا على الإصغاء لبعضنا البعض من جديد.

جهاد نمورة
مدرِّب ومستشار في التّأثير المجتمعي والعمل الإنساني. يَعمل في مجال تمكين الشّباب وتطوير القيادة والمشاركة المجتمعية، وتعزيز الوعي الجَمعي والمساءَلة المجتمعية.



