نَحوَ مَسار طَويل يُفضي لإِزالَة الاستِعمار الكولونياليّ

قبل إعلان وقف إطلاق النار في غزة، على خلفيّة تعهّدات مبهَمة وبِغَير أُفق مستقبليّ، أتى الاحتفاء الكبير بموقف دول أوروبيّة وازنة وغيرها من دول العالم تجاه الاعتراف بدولة فلسطينية. قد يكون هذا الاعتراف عَلامة مهمّة على صعيد تقدّم النضال الفلسطيني تِجاه حقّ تقرير المَصير، لكنّه قد يكون وهمًا آخَر من أوهام السياسة الفلسطينية، كَما عرفناها في نِصف قَرن. الفَرق هو بين من يَعتَقد واهمًا أنّ الاعتراف الدوليّ هو الطريق لدولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل، ومَن يحاول استعمال الاعترافات كأَداة لتكثيف الضّغط على إسرائيل بصفَتها دولةً تنفّذ إبادة، وأقامَت نظام أبرتهايد أكثر تطوّرًا من النظام البائِد في جنوب أفريقيا، وأنّ قمعها الفلسطينيينً في إطار مَشروع الاستعمار الإحلاليّ في عموم فلسطين، مِن النّهر إلى البَحر هو ما يَجِب أن يتوقّف، في سياق إقامة دولة ديمقراطية ومدنيّة لعموم سكّانها، في فلسطين/ إسرائيل.

دَأَبت السياسة الفلسطينية، ومثقّفوها وكتّابها، على التّلويح بأهميّة اعتراف العالَم بالدولة الفلسطينية، وإن كانت تحت الاحتلال، بالرغم مِن كون هذه السياسة فَشِلت في تقديم شيء ملموس وحقيقيّ لشعبها، بَعد الحلم الموعود منذ ثلاثة وثلاثين عامًا في أوسلو، الذي وقّع عليه من يَقِف اليوم على رأس هذه السياسة، محمود عباس، وذلك طبعًا مما يدلّل على الإخفاق التاريخيّ، أكثر من أيّة دَلالة أخرى.

إن إعلان الدولة الفلسطينية مِن قِبَل محمود عبّاس، هو وَهْم آخر يُضاف إلى أوهام فلسطينية، تسوّقها القيادات للناس، تَحت يافطة أحلام التّحرير والعودة، وكان "وعد الآخرة" الذي أَطلَقَته "حماس" ومثقّفوها في غزة، قبل عمليّة السابع من أكتوبر 2023، من الفئة نفسها، التي تُطلقها القيادات كجزء من "خطاب" الإنجازات، وشَعبُنا يَحصُد بَعدها الهزيمة والإذلال، وأهوال الإبادة والتّطهير العِرقي، وكلّ أشكال الجرائم الإسرائيلية وصنوفها بِحَقّه. 

الآن، وبَعد أن هدَأَت قليلًا عاصفة الاعترافات بالدولة الفلسطينية، ومِن قِبَل دول وازنة في النظام الدولي، لا يجوز التّقليل من هذا الإنجاز، الذي أتى كجزء من تَداعيات دماء غزة وأهلِها ومعاناتهم، بوزن أكبَر بكثير من "إنجازات" السياسة الفلسطينية الفاشِلة بالمقاييس كلّها، عدا إضاءات قليلة، هنا وهناك، لكنّنا يجب أن لا نَقَع في وَهْم آخر، يُحدِث جلبة سياسية وثقافية فلسطينية، لكن بدون أيّ جَدوى، على الاطلاق، وبَدَل السّقوط مرّة أخرى في الأوهام، يَجِب الاهتمام بدلالات هذه الاعترافات، والعَمل على  جاهزيّتنا كفلسطينيين لما تَعنيه هذه الاعترافات.

بادئ ذي بدء، من المهمّ التأكيد بأن حلّ الدولتين أصبح وراءَنا، وهو وَهْم أولًا، وغير مُمكن ثانيًا، ولا يقدّم حلًّا حقيقيًّا ثالثًا، وأنّ اللجوء إليه هو دلالة العَجز عن تقديم حلّ جوهريّ، ليس إلّا. لذلك، فإن إصرار السياسة والدبلوماسية الفلسطينية ومثقّفين فلسطينيين بارزين، ومِن ورائهم إعلام مكثّف وسياسة عربية وإسلامية قاصِرة، وإرادَة دوليّة عاجزة، هو كَمِثل "دقّ الميّ، وهيّ ميّ". فما ثَبَتَ فشله النهائي وانتهاء صلاحيّته، لا يمكن أن يُعاد إلى الحياة بسبب اعترافات دوليّة متأخّرة أو بسبب إصرار سياسة فلسطينية تمثّلها سلطة رام الله، التي تحوّلت عمليًا ومنذ سنوات إلى أَداة لإسرائيل للتحكّم بشعبنا.

لكنّني لا  أزال، وبالرغم مما قدَّمته أعلاه، أعتقِد بأهميّة كبيرة لهذه الاعترافات، ليس في سَبيل تحقيق الدولتين أو إقامة الدولة، وهي أَوهام، بل لأنّها ممكنٌ أن تكون محطّة إضافية في حصار دبلوماسي لإسرائيل، ولغالبية الإسرائيليين المُعادين لأيّ وجود جَماعيّ وقومي فلسطيني، ويصرّون على دعم الإبادة والتّطهير العِرقي والسيطرة، والتنكّر لحقّ الفلسطينيين في وطنهم. 

عندما صرَّح نتنياهو مِن على منصة الأمم المتحدة قبل أسابيع، بأنّ معارضة دولة فلسطينية هي قرار كنيست صوَّت لجانبه 99 عضو كنيست وعارَضَه 9 فقط (هم أعضاء الكنيست من الأحزاب العربية)، فإنّه أصاب بأنّ هذا موقف غالبيّة الإسرائيليين. لكنّه طبعًا يُخفي حقائق أخرى عن الإسرائيليين وعن إسرائيل، فمثلًا تؤيد غالبية كبيرة من الإسرائيليين الإبادَة والتّطهير العِرقيّ والأبرتهايد، وأنّ حكومة نتنياهو تشمل شَعبويين وفاشيين، بشَكل يَفوق أيّة حكومة منتخبَة أخرى في العالَم وفي إسرائيل منذ إقامتها، وأن الجيش يَشمَل قَتَلةً يُعلنون ذلك مِن على منصّات التواصل، وقتلةً وإرهابيين بين المستوطنين في الضفة الغربية، ويمثّلون الكثيرين من الجَماعة في إسرائيل، التي تحوّلت تدريجيًا إلى حالة فاشيّة وعنيفة وفاقدةً الحساسيّة لأيّ نقد داخلي أو خارجيّ، مما يسمح بارتكاب أكبر الجرائم بحقّ الفلسطينيين، وبما يَسمَح لنتنياهو بأن يأمر بوَضع مكبّرات صوت في غزة أثناء خطابه في الأمم المتحدة، تمامًا كما يلائم أكبر مجرمي الحرب من قادة أنظمة فاشيّة حَكَمت أجزاء من أوروبا خلال النصف الأول من القرن العشرين، وكانت مسؤولةً عن جرائم الحرب العالمية الثانية، والهولوكوست على رأسها. 

إنّ أهميّة الاعترافات تَأتي لأنّها تَعبير عن إرادة سياسيّة متغيّرة في الدول المعتَرِفة بفلسطين، وذلك بفَضل تغييرات في المزاج الشعبي في هذه الدول وحالة الذّهول أَمام ترتَكِبه إسرائيل من جرائم إباديّة، وبالتالي القِيام باحتجاجات غير مسبوقة، ضَغَطت على القيادات لتقديم شيء للفلسطينيين، ووجَدَت القيادات ضالّتها في الاعتراف، لكنّها لا تقوم بأيّ فعل جدّي وفوري لإنهاء الإبادة والتّطهير العِرقيّ والحصار والقتل والتّجويع في غزة خصوصًا، وفي عموم فلسطين. 

لكن، إذا كانت خطوة الاعتراف نتيجةً للضغط الشعبيّ والإعلامي في هذه الدول، بسبب جرائم إسرائيل، فإنها إشارة على أنّ هنالك نافذةً للاستمرار في الضّغط لأجل وقف الإبادة والتطهير وجرائم إسرائيل، من خلال محاصَرة إسرائيل دبلوماسيًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا. وهذا لا يَعني أبدًا ان يُحاصَر عموم الإسرائيليين، فبينهم مَن هم أشدّ النّاقدين لسياسات الإبادة والتّطهير العِرقيّ، ومِن أكثر الدّعاة لمعاقبة هذه الحكومة وسياستها، وبرأيي، لا يستقيم النضال للعدالة في فلسطين/ إسرائيل بدونهم. والعدالة في فلسطين تَعني أولًا وقف الإبادة ووقف الاستعمار الاستيطاني الإحلالي في عموم فلسطين / إسرائيل  مِنَ الّنهر إلى البحر، وإنهاء الأبرتهايد والتفوّق العِرقيّ، وجَعل فلسطين التاريخية، مكانًا آمنًا للفلسطينيين والإسرائيليين ولكلّ المضطَهدين في العالَم.

بَعد إعلان "خطة ترامب" الفاقدة لأيّ مسار حقيقيّ لإنصاف الفلسطينيين أو وَقف جَدّي للجرائم الإسرائيلية بحقّهم، من المهمّ أن يتحوّل الاعتراف المنجَز، مِن أَداة لزرع أوهام الدولة، إلى أداة فعليّة لنَقد إسرائيل وسياساتها، ولإنجاز تغيير في المَعنى الحقيقي لوقف جرائم إسرائيل، وذلك من خلال التمسّك بحلّ ديمقراطيّ، ثنائيّ القومية، في عموم فلسطين/ إسرائيل. ذلك مُمكن إذا تمكّنت النُخب الثقافية والسياسية الفلسطينية والقيادات – التي يجب أن يتم تغييرها فورًا- وشركاؤهم مِن الإسرائيليين وأحرار العالَم، مِن تحديد المَعنى الحقيقي للتّغيير المطلوب في فلسطين، والسّعي إلى ذلك من خلال استغلال النّقد المتصاعِد لإسرائيل، الذي عُبّر عنه مؤخرًا في سلسلة الاعترافات، لأجل بناء حالة فلسطينية وعربية وعالمية، مبنيّة على فَهْم الحقيقة البسيطة بأن المشكلة ليست في إنهاء الاحتلال، بل في إنهاء حالة التفوّق العِرقي والاستعمار الكولونياليّ في فلسطين، ويتمثّل ذلك في التطلّع إلى تغيير فوريّ وسريع بإتّجاه دولة المواطنين المتساويين.

مِن هُنا يَجِب التّأكيد على  عَدَم الاكتفاء بالاحتفاء بإعلان الدّولة، بل أن المطلوب هو استغلال هذا الاعتراف لتكثيف الضّغط الدولي، وإجبار باقي أمم العالم ودوله على الانضمام لقافلة التّغيير، التي يتوجّب على الفلسطينيين تَعبيد الطريق لها. إنّ القُصور في هذا المَرمى يَجعل من "اعترافات الدولة" سيفًا مسلّطًا على الفلسطينيين ومستقبلهم، وإن كانت قياداتهم ستُستقبَل على بساط أحمر بصفتها قيادة دولة، فإن واقعهم سيزداد سوءًا وتردّيًا، لأنّ التّغيير يجب أن يكون في ممارستنا السياسية الجَمعيّة لوقف الإبادة وإزالة التفوّق العِرقيّ، وليس فقط مِن خِلال بِساط أحمَر وعَلَم وإعلان دولة.

إنّ الحِفاظ على حالة نقد إسرائيل وجرائمها تصبح مهمّة أصعَب فيما بَعد مبادرة ترامب وإعادة دول وازنةٍ علاقاتِها مع إسرائيل ما قَبل الحرب على غزة، كما دعوة نتنياهو المُشينَة لقمّة شرم الشيخ، وحتى رَفضِه الالتفات لَها، وخصوصًا أنّ قيادات عربية وفلسطينية ودولية حَضَرت إلى شرم الشيخ بالرغم من الدّعوة الرسميّة لنتنياهو، الموجِّه الرئيس للحرب على غزة وللجرائم المرتَكَبَة. إنّنا بحاجة إلى جُهدٍ شَعبيّ ورسمي ونخبويّ جدّيّ لكي يتمّ تكريس ضرورة معاقبة إسرائيل وقادتها وتقديمهم للمحكمة الدولية، لكَي لا يَذهَب نّقد إسرائيل والغضب عليها مَهَبّ الريح، ولكي تكون المصالَحة ممكنة في المستقبل، ولكي نَستطيع التقدّم نحو المستقبل، بدون نسيان، لكن مع استعداد كامل للتفكير في مستقبل مختلف، لنا وللإسرائيليين.

بروفيسور أسعد غانم

محاضر في قسم العلوم السياسية في جامعة حيفا وعضو "ملتقى فلسطين"

رأيك يهمنا