المُؤَسَّسات الأُمَميَّة: العَمَل بِأَيدٍ مُكَبَّلة في غزّة

إسرائيل وعَلاقة عدائيّة مع الأُمم المتّحِدة
لم تَكُن علاقة إسرائيل يومًا جيّدة بأيّ مؤسسة دولية، وطالما ادّعت أن الأمم المتحدة ومؤسساتها كلّها معادية لإسرائيل حتى في أيّام ما قبل الحرب الأخيرة بسنوات، لذلك، حاولَت إسرائيل دائمًا تعطيل عمل هذه المؤسّسات والحدّ من قُدرتها على المساعدة. فقد أخذت العلاقة بين إسرائيل والأمم المتحدة منحنىً تصادميًّا منذ الأيام الأولى لقيام دولة إسرائيل وبَعد الحُصول على الاعتراف والعضويّة بالأمم المتحدة، وكان أوّل صِدام حقيقي بين الطّرفين مبادرة الجمعية العامة لتَدويل القدس، إذ رفَض بن غوريون حينها المبادَرة جملة وتفصيلًا، واقترح اتّخاذ إجراءات واضحة وسريعة مِثل نقل مكاتب وزارات الاحتلال إلى القدس، وقال: "إذا خُيّرنا بين مغادرة القُدس أو مغادرة الأمم المتّحدة، فَسَوف نُفضّل مغادرَة الأُمم المتحدة..".
مَعَ وجود ترامب في "البيت الأبيض"، وبدعم أمريكي مطْلَق، عادت إسرائيل إلى مَنطق بن غوريون القديم: الشرعيّة تُنتزع بالقوّة لا بالقانون. بل تجاوزت ذلك إلى إعلان حرب مفتوحة على المؤسّسات الأمميّة نفسها، فقتَلَت مئاتٍ من موظفي الأمم المتحدة منذ أكتوبر 2023، بحسب "رويترز"، ومَنَعَت دخول مَبعوثيها إلى الأراضي الفلسطينية، ووصل الأمر برئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو إلى حدّ وصْف الأمم المتحدة أمام الجمعية العامة بأنها "مستنقَع من البَلاء المُعادي للساميّة" و"بيت من الظُلمة". ثم أعلَنَت إسرائيل الأمين العام للأمم المتحدة غوتيريش "شخصًا غير مرغوب فيه" – في تَصعيد غير مَسبوق ضدّ رأس المنظَّمة الدوليّة، ولم تتوقّف الحَملة عند شخصِه، بل شَمِلَت المؤسسة الأمميّة برمّتها.
بينما سنّ الكنيست قانونًا يَحظر عمل "الأونروا" داخل إسرائيل، في محاولة لتفكيك الوكالة الأمميّة وتجفيف موارِدها. وإلى جانب القَصفِ والتشريعات، فَرَضت إسرائيل قيودًا مشدّدة على دخول المساعَدات الإنسانيّة، فأغلَقَت المعابِر، وعرقَلَت وصول الإمدادات، وفَرَضت المجاعَة كسلاح على الفلسطينيين في غزة، في تحدٍّ مباشر لدور الأمم المتحدة الإغاثي.
في المقابِل، عانَت وتُعاني بَعض هذه المؤسَّسات الدوليّة المنبثِقة عن الأمم المتّحدة من فَساد بنيويّ، وقد استغلّ بعضُ العامِلين في بَعض هذه المؤسّسات الصّراع العربي الإسرائيلي استغلالًا ماديًّا ليس بالبسيط، مما أثّر على ثقة الفلسطينيين بها.
الحَرب الأَخيرة والمؤسَّسات الدوليّة
لا نَستطيع أن نضَع المؤسّسات الدولية كلّها في الخانة نفسها، فبعضها سياسي وآخر قانوني وآخر إغاثي، ولكلّ منها دَور مختلِف لكنّها مُكَملة لبعضها البعض. على الرغم من أنّ الناس تأمَّلت أو اعتقدت أنّ بمقدور هذه المؤسّسات الضغط على إسرائيل لإيقاف حربها المَسعورة على القطاع، فإنّ الواقِع على الأرض للأَسَف أثبت مرّة أخرى أنّه بانعدام الإرادة السياسيّة الدوليّة (وهنا أَقصد الإرادَة السياسية للدول الكبرى والمؤثرة في العالَم)، فإن المؤسّسات الدولية كلّها لن تَستطيع فعل شيء.
في المقابل، لَم تُعطِ محكمة العدل الدولية أمرًا مباشرًا وصارمًا لوقف إطلاق النار كما حَدَث في حالة الغزو الروسيّ لأوكرانيا، وأَبقَت الموضوع ضمن تفصيلات إجرائيّة. على النّقيض، أصدَرَت محكمة الجنايات الدولية أمرَ توقيف ضدّ رئيس الوزراء الإسرائيلي ووزير دفاعه السّابق بتهم تتعلّق بجرائم حرب.
أمّا المؤسّسات الإغاثية الدوليّة فدورها يتركّز في إيصال المستلزَمات الحياتيّة وليس في إيقاف الحُروب، فهي لا تَستطيع ذلك، ولم يتمّ تأسيسها لهذا الغَرَض، فالمأمول من هذه المؤسّسات هو تخفيف معاناة المدنيّين خلال الحروب وإيصال المستلزَمات الحياتية لهم. لكنّ هذه المؤسسات لا تستطيع فِعل ذلك وَحدَها، فبدون تَمويل من الدول الغنية، وبدون تسهيلات من الأطراف المتحارِبَة، لا تستطيع القيام بأيّ شيء.
في الحرب الأخيرة على غزة، كانت آلاف الشاحنات التابِعة للمؤسسات الدوليّة المحمّلة بالمواد الغذائية موجودة على المعابر المختلفة، وعلى الرغم من كلّ المناشدات والطلبات، كانت أعداد الشاحنات المسموح لها بالدخول محدودة جدًّا، في المقابل، تحدّث العديد من سكان قطاع غزة عن سوء توزيع للمساعَدات (وأنا هنا لا أتحدّث عما سُرق من مساعَدات) وعن وجود محسوبيّات في التوزيع، وهو أمر أكثر من طبيعي -حسب رأيي- في أوقات الحروب الدّامية.
خاتمة
لا شكّ أنّ العديدين تأمّلوا أن تقوم الأمَم المتّحدة والمؤسّسات الدولية بدور أكثر فاعليّة خلال حرب إسرائيل الشّعواء ضد الفلسطينيين في قطاع غزة، لكنّ المتابِع للعلاقات بين إسرائيل وهذه المنظَّمات من جهة والدّعم الأمريكي غير المحدود لإسرائيل من جهة أخرى يُدرِك أن قدرتها محدودة أصلًا في أوقات السّلم، ومحدودة أكثر في مناطق النزاعات، ومحدودة جدًّا في حرب إسرائيل على غزة.

المحامي معين عودة
محامٍ مختص في قانون حقوق الإنسان الدولي، وباحث ومدرّس مساعد وطالب دكتوراه بكلية كارتر للسلام وحلّ النزاعات في جامعة جورج ماسون. شغل مهمات استشارية وزمالات متنوّعة إلى جانب حضوره الإعلامي.



