تَجرُبَة غَزّيَّة مِن قَلْب عُمان: نَبضُ التّضامُن

مِن أَين أنتِ؟ 

لم أَعتَد أن يسألني أحدٌ مِن قَبل "مِن أَين أنتِ؟"، ربّما لأنّني عِشت حياتي كلّها في غزة، ولا أَحَد يسأل الآخر سؤالًا كهذا لأنّنا بطبيعة الحال كلّنا غزّيون تقريبًا، إلا أنّني فوجئت بأنّني أَتَلقّاه كثيرًا هُنا لأُجيب سريعًا دون تفكير "مِن غزة"، وربما سألتُ نفسي كثيرًا بَعدَها لِمَ أقول غزة ولَيس فلسطين! 

أرغبةً بهذا التضامن الذي لا أتوقّف عن تلقّيه بَعد هذه الإجابة، كَدَعوة تُطَبطِب على القَلب المرهَق؟ أم التأكيد مرارًا على طَلب المساعَدَة في حال احتجْتُها، كوني جديدة في بلدٍ ليس ببلدي الذي يتعرّض لأَسوأ الظروف؟ أم طمعًا بكلمات ترحيبٍ وتعاطف كـ "الحمدلله على سلامتك" "نوّرتي بلدك الثاني" "اعتبريه بلدك"؟ تلك الكلمات التي كانت في الحقيقة تُسعدني وتُشعرني ببعض الراحة والأُنس اللذين افتقدتهما كثيرًا بعدما غادَرت غزة.

أَمْ لأنّني أَنتمي لغزة، مدينتي التي أُحبّ، أَزهو بها وأَفخر باسمها، اسمها المتفرّد الذي هزّ العالَم مؤخرًا وأَعادَ قضيّتنا الفلسطينية لأَوجها؟

هُنا تَصدَح الدّعوات..

مرّت على مَسامعي الكثير مِن دعواتهم المتواصِلة، أَلسِنتُهم تَلهج بالدّعاء لي ولَنا حين يَرونني، وحين أَقول لَنا أَقصِد كلّ الغزّيين، كما لا تَخلو مواقع التّواصل الاجتماعي من دَعَواتهم في التّعليقات على المَنشورات هنا وهناك.

أَذكُر أَنّني بكيتُ كثيرًا عندما سمعتُ أن إمام المسجد يَدعو لغزة في خطبة الجمعة، بكيتُ فرحًا، وكأنّ ما يُفترض أن يكون عاديًّا في وقتٍ عصيبٍ كهذا الذي نمرّ به، ليس بِعاديّ، في ظلّ استمرار بَعض الحكومات العربيّة بخَنق الأَصوات، خاصةً في المَساجد والأَماكن الدينيّة التي لها الأَثَر الأَكبر على الشعوبِ ووعيها الدينيّ والأخلاقيّ، هُنا صَدَحت الدّعوات من قَلب المَساجد لغزة وأَهلِها، الأمر الذي أكّد لي أن هذه الدّعوات أيضًا شَكل من أَشكال التضامن الذي نُريد..

تَضامن من القَلب…

بَعدَ الهَزائم المتتاليَة التي أَلمّت بي، منذ مغادَرة غزة مرغَمَة، ثم غُربَتي والوحدة التي طالَت أكثر ممّا توقَّعت، جاءَت طَبْطَبَة أبناء الشعب العُماني بلسمًا لجراحي..

لم يتوانَ الكَثير من الأصدقاء والأحبّة الذين جَمَعَني بهم القَدر خلال سنة إقامتي هنا، بل كلّ من عَرفت تقريبًا، عَن تقديم الدَّعم والمؤازَرَة، العَون والدّعوات الطيّبة، التّواصل والاطمئنان المتواصلان، إِشراكي في المُناسبات المختلِفة حدّ اعتباري "مِنْهم وفيهم" كما يُقال.

لا يَقتصر الأَمر عليّ لأنّهم عَرَفوني، بل أكادُ أَجزم أنّه ينطَبق على كلّ من عَرَفوا ومن لَم يَعرفوا من أبناء شعبي، ورأيتُ في تَضامنهم ووُرَشهم وفعاليّاتهم ومناسباتهم ذكرًا لغزة وحديثًا لا ينفكّ عنها وعمّا يجري على أَرضِها من انتهاكات..

كنتُ قد دُعيت في إِحدى المرّات للحديث عَن تجربة الحَرب في غزة، وعَرض الجانب المُشرِق منها قَبل أن تَمحو آلة الحَرب معالِمَها، وللإجابة على تساؤلات مَن يُشاهد إبادةٍ عن بُعد، وقد تلقيّت خلال الورشة من الأسئلة الكَثير، كيف هو الحال؟ كَما يصوّره الإعلام أَم أَكثر؟ كيف تَصبِرون على هذا كلّه؟ كيف كانت غزة من قَبل؟ وهذا الأَخير هو السؤال المحبّب إلى قلبي، أَستفيض بإجابته، لا أتوقّف، وهُم يُصغون جيدًا راغبين بمعرفة المَزيد، مزيجٌ من الحزن والتّقدير يَكسو وجوههم، وأحيانًا كانوا يَبكون على بكائي، كلّهم كانوا يرتَدون كوفيّة ومَلابس فيها شيء من التراث الفلسطيني تعبيرًا عن تضامنهم ودَعمهم، أَرادوا الحديث دومًا، وتمنّوا لو أن بيدهم شيئًا أَكثَر من الحديث.

المُقاطَعة

أكثرُهُم مَع المقاطعة قلبًا وقالبًا، كنتُ أَرى أصدقاءَ لي يتفقّدون المنتَجات في المَتاجر قبل وضعها في السلّة للتأكّد ما إذا كانت داعمة للاحتلال الإسرائيلي أم لا، يسألونَني للتثبّت، ونبدأ بالبحث عن البَدائل المتاحَة، كانوا يستثنون دومًا المَحَال والمطاعم الداعمة ولو بشكلٍ غير مباشر؛ هم ببساطة يشعرون أنّها وسيلتهم التضامنية ويَفعَلون هذا بكلّ حبّ.

خاتمة..

يَحتاج الإنسان بطبيعة الحال إلى الدّعم والمسانَدَة عندما يتعرّض لأَحلَك الظروف، فما البال بحربٍ استمرت عامين كاملين، ذاق الغزّيون خلالها كلّ أصناف الخوف والعذاب..

فأَن أَرى هذا التّفاعل، وهذا الحبّ، وهذا الوعي في بلدٍ عربيٍ جَميل كعُمان، البلد الكريم الِمضياف يَجعلني أُؤمن أنّ التضامن لا يَحتاج حدودًا، بل قلوبًا..

هديل أبو شعبان

إعلامية وناشطة مجتمعية غزيّة نازحة في عُمان.

رأيك يهمنا