"قاموس إِسرائيلي" مِنْ ثَلاثِ مُفرَدات!

وكأنّ الضَّم سيُنهي أَزمَة الاحتلال وسيَجلب الأَمن والاستقرار للمجتمع الإسرائيلي، وكأنّ الضَّم هو الإجابة التاريخيّة والحلّ النهائي للصراع الإسرائيلي الفلسطيني. بالنسبة لَنا، نحن الشعب الفلسطيني، فإن الضَّمَ أَسوَأ من الاحتلال، ذلك أنّه لن يمنحنا حقوقًا أكثر، أو وضعًا أفضَل، بل على العكس من ذلك تمامًا، سنُحشَر في مَعازِل ومَحاشِر ضيّقة بلا خَدَمات ولا ثَروات، نعاني البطالة والازدحام والفَقر وكلّ ما يجرّ إليه من عنف وجريمة وتفكُّك.

الضَّم أَسوَأ من الاحتلال، ليس لأنّه يدفن الدولة كما صرّح بذلك فيلسوف الصهيونية الدينية الصاعد، سموترتش، بل لأنّ الضَّم سيحرمنا القُدرة على التّواصل والتقدّم وبناء مجتمع قادر على الاستمرار، الضَّم يَعني حرماننا من ممارسة أبسَط أشكال الحياة وحقوقها، فضلًا عن إغلاق باب الأمل بتسوية تحقّق الشروط الدنيا والأساسية للمطالب الفلسطينية.

الضَّم، كما تَطرَحه إسرائيل، ليس عقابًا للشعب الفلسطيني، وليس ضغطًا على السلطة الوطنية الفلسطينية للتّراجع عن مسألة الاعتراف بالدولة، بل هو الحُلُم الصهيوني بنُسختيه العلمانية والدينية وبكلّ درجاته وتجلياته وألوانه، والضَّم في هذه الظروف الراهنة، هو نتيجة الضّعف والتراجع والخضوع العربي والأوروبي للبلدوزر الأمريكي، الذي يَقوده شَخص لا يَرى إلّا ما يُريه إيّاه اللوبي الصهيوني المسيحي، وإذا كانت هذه الأطراف ترى في ضَمّ الضفة، بشكل محدود أو جزئي أو كليّ، أنه حلّ نهائي – توراتيًّا وشعبويًّا وانتخابيًّا – فإنه بالتأكيد لن يشكّل نهاية ولا حدًّا للصراع، فالضَّم لن يجعل من غير القانوني قانونيًا، ومن غير التاريخيّ حقيقة أبدية، ومن الاحتلال حالة يمكِن التّعايش معها.

الضَّم لافتة تَستَبدل لافتةً ليس أكثر ولا أقل، ذلك أن الاحتلال – وعلى مدى 57 عامًا – جعل من الضفة الغربية المحتلة مكانًا مستباحًا للاستيطان والوجود العسكري وسرقة الموارد، فيما حَرَم الفلسطينيين من الحركة والتملّك وحقّ تقرير المصير، من خلال مئات القرارات العسكرية التي صودرَت بموجبها عشرات الآلاف من الدونمات، ودُمّرت آلاف البيوت، وقُطعت آلاف الأِشجار، واعتُقل وقُتل ليس أقل من مليون فلسطيني منذ عام 1967 وحتى الآن، وعلى مدى سنوات الاحتلال، فقد تعاملت حكومات الاحتلال جميعًا مع مبادرات الحلّ بشكل مستهتر أو غير جدّي، بحيث تملّصت من التّسويات وعمّقت حالة الاحتلال، وزادت من حالة البؤس التي يحياها الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية المحتلة، ولأن إسرائيل أدارت ظهرها للتّسوية من أيّ نوع، طيلة السنوات الخمسين هذه، فقد كانت هناك حروب ومواجَهات وانتفاضات ضدّ هذا الاحتلال، وكلّ ذلك من أجل أن تُبقى إسرائيل الأرض بيدها.

رَفَضت إسرائيل مبادَرات التّسوية وعروض التّطبيع وإمكانيات السّلام، من أجل أن تُبقي احتلالها للضفة الغربية المحتلة وقطاع غزة والقدس والجولان، بالنسبة لإسرائيل، الأرض أهمّ من السَّلام، ولأن ذلك كذلك، فإن الضَّم هنا والتّهجير في قطاع غزة، يحقّق هذا الحلم، ويبدو أنّ إسرائيل تَقرَأ الواقع بطريقة أخرى، فهي تَعتقد أنها منتصرة، وأنّ الظرف يساعدها في أن تثبّت ما عملت من أجله طيلة أكثر من خمسين سنة.

ولأن الضَّم لا يَكتمل إلا بإزالة أو تغييب الممثّل الفلسطيني السياسيّ الذي يطالِب بالدولة الفلسطينية وإنهاء الاحتلال، فإن حكومة إسرائيل الحاليّة توجَّهت إلى السلطة الوطنية الفلسطينية بالسَّحق إن هي تصرّفت بما لا يُرضي إسرائيل، أو ما لم تَقُم بما تطالب به إسرائيل، والمسأَلَة ببساطة ووضوح، فإن إسرائيل، ومَن وراءَها وأمامها أيضًا، يريدون سلطة معقّمة ومُبَسْتَرة، مُطيعة وخاضعة، لا تطالِب بدولة، وتطلب من الآخرين أيضًا أن لا يَعترفوا بها، وأن تغيّر مناهج التدريس في مدارسها – وكأن مناهج المدارس الإسرائيلية مصمَّمة حسب لائحة حقوق الإنسان – وأن لا تَدفع للأسرى أو عائلاتهم، وأن تدين "الإرهاب".

تُريد إسرائيل عمليًّا سلطةً تُعاوِنها في احتلالها وتُجمّله وتزيّنه وتقدّمه للعالم باعتباره هديّة إلهيّة، تُريد إسرائيل بهذه المَطالب ألّا تكون السلطة الوطنية تمثّل شعبها سياسيًّا وقانونيًّا وتاريخيًّا وثقافيًّا، إسرائيل، هذه المرة، تريد حقًا استسلام الشعب الفلسطيني، بغضّ النَّظر عن اسم الفصيل أو اسم القائد، المَطلوب من الشعب الفلسطيني الإيمان والتّصديق والتّوقيع على أن إسرائيل لها الحقّ الأبدي بهذه الأرض، فالضَّم والسَّحق والطَّرد، وهي مُفردات قادمة من قرون مظلمة مضت، أصبحت بالنسبة لإسرائيل الّلغة الوحيدة التي تستعملها، وتعتقد أنها بذلك ستنهي الصراع.

المفارَقَة هنا أن عمليات الضَّم والسَّحق والطَّرد، ستنقُل الجَميع إلى فصل جديد، وربما أكثر دمويّة، من فُصول هذا الصّراع، لكن يبدو أن المَهووسين هم الذين يجعَلون من التاريخ درسًا لا يُستوعب رغم سهولته ووضوحه.

بَعد سَنتين من هذه الحرب، فإن حكومة نتنياهو لم تَستَطع الادّعاء بأنها منتصرة، فهي رَغم احتلالها قطاعَ غزة وتدميره ومَحو بعض مدنه تمامًا، لا تزال تُطارد صورةَ انتصار لن تَحصل عليها، ورغم استخدام الاحتلال معظمَ الأسلحة المطوّرة والمعدّلة والسيبرانية، وقتل وجرح مئات الآلاف من الفِلسطينيين، فإن الجيش الإسرائيلي، وهو من أقوى جيوش العالم، لم يَستَطع هزيمة هذا الشعب، على المستوى النفسي والمعنوي والوجداني، وحتى المادي، فالصمود فكرة تَنتقل من مكان لآخر ومن جيلٍ لآخر.

بَعد سنتين، لا يبدو الجمهور الإسرائيلي منتصرًا أيضًا، أما نتنياهو شخصيًّا فقد تواصلت خسائره بدءًا من عَدَم قدرته على تحرير الأسرى أو إخضاع القطاع، وانتهاءً بالمطاردة الدوليّة والإدانة الشعبية من شعوب العالم، فضلًا عن خسارة التّطبيع المجاني، أو فرض الهيمنة على الإقليم، أو حتى الانتهاء من التهديدات المُحتَدِمة.

غَرِقَ نتنياهو وحكومته في الرمل الغزاوي وفي باقي الجبهات، لم يُقنِع هذه الحكومة بالتسوية على الإطلاق، بل اختار الرجل وبطانته المتطرّفة الهروبَ إلى الأمام رغم كلّ التحذيرات والنصائح بالذهاب إلى تسوية مُرضية، إصرار نتنياهو على نهجه العدوانيّ مغطى بالكامل من إدارة أمريكية متطرّفة، هي الأخرى لا تقل تطرّفًا عن أيّ حزب يميني في إسرائيل.

إنّ تصويت الجمعيّة العامة في الأمم المتحدة لصالح الاعتراف بالدولة الفلسطينية، مع أَخذ الشروط الإسرائيلية بعين الاعتبار أيضًا، لم يُقنِع نتنياهو ولا حكومته ولا الإدارة الأمريكية بالموافَقة على هذه الرؤية التي تَهدف إلى طَرح تسوية فيها كثير من الشّروط الكافية للأطراف جميعًا لتحقيق السلام والهدوء والاستقرار، لكنّ إسرائيل والولايات المتحدة تطرحان بالمقابل رؤية تَقوم على الضَّم والطَّرد والسَّحق، وعدم الاعتراف بالشعب الفلسطيني ودولته.

رؤيَتان مختَلِفَتان متناقضتان بعد سنتين من حَرب سُفِكت فيها دماء كثيرة لا يَعلمها إلا الله، هذا يَعني ببساطة أن إسرائيل وَمَن وراءَها، تهدف إلى عالم آخر يسوده الخضوع والاستسلام لرؤية استعمارية لَن تجلب للمنطقة سوى الدمار والدماء.

د. أحمد رفيق عوض

رئيس "مركز القدس للدراسات المستقبلية" في جامعة القدس.

رأيك يهمنا